غراسيي تكره وجه النظام وتحب ماله

غراسيي تكره وجه النظام وتحب ماله

المغرب اليوم -

غراسيي تكره وجه النظام وتحب ماله

بقلم : توفيق بو عشرين

أعرف كاترين غراسيي منذ كانت تشتغل صحافية في مجلة «لوجورنال»، التقينا مرات عدة في الرباط والدار البيضاء، وكانت تتصل لتدقيق معلومة، أو البحث عن رقم هاتف، أو أخذ رأي في نازلة، وكان أصدقاؤها ينظرون إليها كصحافية تحقيقات جيدة تزاوج بين تقنيات الحرفة والانتماء إلى مدرسة يسارية فرنسية تدعم الديمقراطية في دول الجنوب، وتبتعد عن «نادي المامونية» للصحافيين الفرنسيين، الذين أصبحوا معروفين بهوياتهم وأرقام جوازات سفرهم، وحجوزاتهم في فنادق مراكش بوسطاء ودون وسطاء أحيانا… لكنني صدمت مرتين في «زميلتنا» كاترين، مرة عندما قبلت أن تقايض كتابا لها مع إيريك لوران مقابل مليوني أورو، وقالت: «إنني ضعفت أمام المال الذي عرضه محامي القصر الملكي، هشام الناصري، في مطعم فخم في باريس»، ومرة عندما قالت في برنامج فرانس3: «إنني يئست من جدوى التحقيق الصحافي بالمغرب.. لقد كتبت وكتب غيري عن كل الفساد الموجود بالمغرب لكن شيئا لم يتغير، وكل يوم يزداد الأمر سوء. أنا يائسة، ولهذا فكرت في إنهاء مشواري الصحافي في المغرب بالحصول على مبلغ مالي كبير».
هذا الكلام يسمى في العربية الكلاسيكية التي لا تعرفها كاترين «عذر أقبح من زلة»، وهذا يسمى في اللغة الفرنسية التي تعرفها صحافية التحقيقات سابقا: «الديماغوجية وسياسة الهروب إلى الأمام».
إذا كان النظام المغربي لا يريد أن يتغير، وإذا كنت يا «زميلتنا» تكرهين ممارساته في السياسة والاقتصاد، وتكرهين وجهه المفترس، فلماذا تحبين أمواله ونعمه وصفقاته وبالأورو؟ هذا تناقض كبير وبؤس ما بعده بؤس. ثم أنت صحافية ولست مناضلة، أو رسول السماء إلى المملكة الشريفة لهدايتها، وحتى إن كنت مناضلة فرنسية قلبها يخفق بالأحمر والأخضر، فإن تغيير القناعات لا يتم بالدفع المسبق، ولا بالابتزاز، ولا بطلب مقابل مادي من أجل إسكات القلم المزعج أو الصوت المعارض. كان يمكنك أن تغيري مجال تخصصك، وأن تشيحي بوجهك عن المغرب، وتتخصصي في شؤون آسيا أو أمريكا أو كرة المضرب، لا أن تبيعي 10 سنوات من الخبرة في الموضوع المغربي بمليوني أورو وفضيحة كبيرة.
سلوك غراسيي ولوران فتح جرحا عميقا في الجسم الصحافي الفرنسي المثخن بالأعطاب، وهذا ما عبر عنه جيل بيرو، صاحب «صديقنا الملك»، بمرارة عندما قال في برنامج فرانس3: «محمد السادس.. الحكم السري»: «ليس مهما من أين أتت مبادرة عقد صفقة مع الصحافيين الفرنسيين، منهما أم من القصر الملكي.. المهم أن غراسيي ولوران قبلا أن يبيعا مهنتهما، وأن يقبضا مليوني أورو من أجل الصمت وعدم كتابة أي شيء عن المغرب.. هذا هو السوء الذي سيلاحق الصحافة الفرنسية لمدة طويلة، ويلوث سمعتها ومصداقيتها. النظام المغربي سيقول للرأي العام: انظروا إلى هذه الصحافة الفرنسية التي تعطينا الدروس، ها هي تقبض أظرفة مملوءة بالمال.. إنها تبيع وتشتري».
الشيء بالشيء يذكر، يحكي جيل بيرو، في البرنامج أعلاه، حكايته مع الحسن الثاني قبيل صدور الكتاب، الذي أغضب الملك الراحل كما لم يغضبه كتاب آخر عن حكمه وأسرار عرشه «صديقنا الملك».. يروي بيرو أن الملك الراحل بعث سنة 1990، قبل صدور كتابه الذي نزل مثل القنبلة في ساحة المشور، وزير داخليته، إدريس البصري، إلى باريس، حيث التقى نظيره الفرنسي آنذاك، بيير جوكس، محاولا أن يطلب مساعدة الأخير لمنع كتاب «صديقنا الملك» من الصدور، حيث قال البصري لزميله جوكس: «وصلنا خبر عن قرب صدور كتاب جيل بيرو. إن خروجه في فرنسا سيؤثر على علاقة بلدينا الممتازة، لهذا لا يمكن أن تسمحوا بصدور هذا الكتاب، لكن، في المقابل، يمكننا أن نعوض الناشر والمؤلف»، فرد وزير داخلية فرنسا على اقتراح البصري شراء المؤلف والناشر بالقول: «ناشر الكتاب هو شركة غاليمار، وهي العمود الأساسي للنشر في فرنسا، ولا أظن أنها ستقبل مناقشة هذا الأمر حتى، أما جيل بيرو فأنا أعرفه.. إنه صاحب مزاج سيئ très mauvais caractère، لهذا لا أنصحك برؤيته ولا بعرض الأمر عليه».
ما فشل فيه إدريس البصري مع جيل بيرو سنة 1990 نجح فيه المحامي، هشام الناصري، في 2015 مع لوران وغراسيي، حيث أفلح ليس فقط في دفعهما إلى التوقيع على عقد مهين يتخليان فيه عن حقهما في التعبير والكتابة والنشر مقابل مليوني دولار، بل أفلح في سجنهما لمدة 48 ساعة بعد تبليغ الشرطة عنهما بتهمة ابتزاز ملك… وبين القصتين بون شاسع بين جيلين وصحافتين وثقافتين.
المال أساس كل شر، يقول الإنجيل، لكن الرأسمالية الحديثة قلبت هذه الحكمة فصارت: «قلة المال أساس كل شر». هناك أكثر من زاوية لرؤية سحر المال في نفوس البشر.
سهل أن نعطي الصحافة الفرنسية دروسا في الأخلاق والمهنية من الرباط والدار البيضاء، لكن صعب أن نعرض جروحنا للشمس، ونكشف عاهات إعلامنا الرسمي وشبه الرسمي والخاص والمستقل، وكيف يتحرك وسطه المال والخوف والطمع كما يتحرك سكين وسط قطعة زبدة. لقد آلمتني جملة قالها معلق فرانس3، وهو يتحدث عن الصحافة المغربية قائلا: «لا تجتمع كلمتا صحافي ومستقل في موضوع الكتابة عن الخطوط الحمراء بالمغرب».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غراسيي تكره وجه النظام وتحب ماله غراسيي تكره وجه النظام وتحب ماله



GMT 18:55 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نقل عدوى لبنان إلى العراق

GMT 18:50 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«الصراع من أجل سوريا»

GMT 18:48 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نواب هل يجرؤون على حجب الثقة ؟

GMT 18:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمشق وطهران والحرب الجديدة

GMT 18:43 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غزة. غزة... بقلم «جي بي تي»!.. بقلم «جي بي تي»!

GMT 18:41 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غول الترمبية والإعلام الأميركي... مرة أخرى

GMT 18:38 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الصراع في سوريا وحول سوريا

GMT 18:36 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

... أن تكون مع لا أحد!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية
المغرب اليوم - أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية

GMT 08:47 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تيك توك يتخلص من أكثر من 200 مليون فيديو مخالف خلال 3 أشهر

GMT 02:26 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

احتياطيات ورأسمال بنوك الإمارات تتجاوز 136 مليار دولار

GMT 03:01 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الدفاع الجديدي يهزم حسنية أكادير

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ميناء طنجة المتوسط يحصل عل قرض من مؤسسة التمويل الدولية “IFC”

GMT 22:42 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب الطرق تواصل حصد أرواح المغاربة

GMT 21:19 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib