عودة إلى الكتاب الأسود

عودة إلى الكتاب الأسود

المغرب اليوم -

عودة إلى الكتاب الأسود

بقلم - توفيق بو عشرين

تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة على ثلاثة أسس؛ أولها، قراءة كتاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان علانية ودون عقد، وثانيها، تعويض ضحايا سنوات الجمر والرصاص ماديا ومعنويا، واعتذار الدولة عما ارتكبته من جرائم في حق البشر، وثالثها، الالتزام بعدم تكرار ما جرى، ووضع قوانين ومؤسسات ومواثيق لحماية حقوق الإنسان، وزرع ثقافتها في عقل الدولة الأمني والقضائي والتشريعي والإداري…
هذه كانت هي الصيغة المغربية من العدالة الانتقالية التي قادها الراحل إدريس بنزكري ورفاقه في هيئة الإنصاف والمصالحة، وجلهم من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. وحتى وإن كانت «الصيغة المغربية» فيها خصوصيات كثيرة، وتنازلات كثيرة عن المعايير الدولية للعدالة الانتقالية، فإن أحدا لم يتصور أن تعود «حليمة إلى عادتها القديمة»، وأن تتبخر كل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتراثها، وأدبياتها، وتعهدات الدولة بشأن الحقوق والحريات في ظرف وجيز (أقل من عشر سنوات)، وأن تعود السلطة إلى الاعتقال السياسي، وإلى محاكمة الصحافيين على آرائهم، وإلى التعذيب الذي أثبته أطباء المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وأن تعود حكومة العثماني إلى عادة إدريس البصري في سب المنظمات الحقوقية الدولية، واتهامها بالجاهز من القول، مثل «تسييس» التقارير الحقوقية عن المغرب، و«الجهل بالواقع»، وخدمة أجندة أشخاص أو مؤسسات تكن عداوة فطرية للمملكة الشريفة ولمصالحها، ولفرادة تجربتها وتقدمها ونمائها!
المناضل الذي تنازل عن حقه في محاكمة الجلاد الذي عذبه، والقاضي الذي حكم عليه ظلما وعدوانا، والسياسي الذي وضع إطارا لجرائم حقوق الإنسان، والمناضل الذي قبل طي صفحة الماضي، والعفو عما ارتكب من انتهاكات، والعائلة التي قبلت أن تدفن شهيدها، وأن تستخرج للضحايا شهادة وفاة، وتصفح عمن أطلق عليهم الرصاص، حتى دون أن تعرف هويته.. هؤلاء جميعا لم يصفحوا، ولم يغفروا، ولم يتنازلوا عن حقوقهم لأن الدولة عوضتهم ماديا، وأقامت النصب التذكارية لذويهم، وكتبت آلاف الصفحات في الكتاب الأسود للمرحلة المظلمة، بل هؤلاء، ووراءهم المجتمع، تنازلوا عن حقوقهم بوعد عدم تكرار ما جرى، وبأمل التطلع إلى مستقبل أفضل، وبنية ألا يعيش الأبناء ما قاساه الآباء والأجداد. هذا هو الثمن الحقيقي لـ«العدالة الانتقالية» ولتجربة الإنصاف والمصالحة.
لو عاش إدريس بنزكري إلى أن يرى 360 معتقلا شابا يدخلون السجون لأنهم تظاهروا في شوارع الحسيمة سلميا من أجل جامعة ومدرسة ومستشفى وطريق وفرصة شغل وبعض من الكرامة.. هل كان سيسكت عن جريرة فتح كتاب جديد من خروقات حقوق الإنسان؟ لو عاش بنزكري حتى رأى صحافيا، مثل حميد المهداوي، يحكم عليه ابتدائيا بثلاثة أشهر حبسا، ثم تصبح سنة استئنافيا، بتهمة الصياح في الشارع العام، مع أن الصياح له فصول في قانون الصحافة ليس فيها حبس ولا سجن، هل كان سيغلق فمه ويستسلم لنعومة الحياة فوق كرسي أو مجلس أو هيئة أو لقب؟ حراك الشباب لم يعرِّ فقط أعطاب التنمية في الريف، بل عرى أعطاب نظام سياسي كامل يعيد إنتاج أخطاء الماضي، وانتهاكات الماضي، وعقلية الماضي، حتى وإن غلفها بغطاء جديد، وخطاب جديد، وبروتوكول جديد، ولغة جديدة.
كيف يمكن لبلاد أن تأكل وتنام وتتناسل وترقص وتغني وتثرثر و360 شابا دون الثلاثين من العمر يقبعون في زنازين باردة، ويحاكمون على جرائم لم يرتكبوها؟ كيف سيصدق المواطنون إنجازات الحكومة المسماة «120 إجراء في 120 يوما»؟ هذه جرأة يحسد عليها العثماني وفريقه الذين يعيشون حالة إنكار جماعي تستدعي دخولهم جميعا إلى مصحة للطب النفسي.
انظروا إلى نسبة المشاركة في الانتخابات الجزئية التي جرت في تطوان وسطات والجديدة، حيث لم تتجاوز 5% من الذين أدلوا بأصواتهم في آخر انتخابات، فيما العادة أن تكون النسبة في حدود 20%. هذا له معنى واحد، هو أن البقية الباقية من المواطنين الذين يتجشمون عناء الذهاب إلى الانتخابات، هؤلاء أيضا أصبحوا غير مهتمين وغير معنيين بالمشاركة في لعبة مغشوشة، وفي عمل غير منتج، وفي انتخابات موجودة لتغطي على الواقع لا لتغيره. هل البلاد مطمئنة هانئة تأكل وتشرب وتنام، والدور جميعها تخلو من المشاكل، والشعب راضٍ ومقتنع أو غير مبالٍ بما يجري في عالم النخب؟
يحكي لي معتقل سياسي من شمال المملكة، أنه لما خرج من السجن بعدما أمضى ثماني سنوات في سجن القنيطرة سنة 1983، توجه إلى تطوان حيث تسكن عائلته، فخرج يتجول في مدينة غاب عنها لثماني سنوات، ولاحظ أن مقاهي ساحة الفدان، المقابلة للقصر الملكي في المدينة، تعج بالمواطنين الذين يشغلون ساعات نهارهم وليلهم بتدخين الكيف في «السبسي» الشهير، وأن أحدا منهم لا تظهر عليه علامات الغضب ولا نية التحرك لتغيير الواقع.
يقول الراوي إنه أصيب بالإحباط، وقال لنفسه: ‘‘لقد أمضيت ثماني سنوات أدافع عن أناس لا يهمهم تغيير واقعهم البئيس، وأنهم وجدوا في «السبسي» مركبة سحرية لمغادرة الواقع عوض التفكير فيه’’، لكن، لم تكد تمضي أشهر حتى اندلعت أحداث 1984، ووجد هذا المناضل القديم نفسه في الكوميسارية دون أن يشارك في الأحداث مع مئات المعتقلين من الذين تمردوا وخربوا وأحرقوا وجردوا الأمن من سلاحه، وبسطوا سيطرتهم على أجزاء من المدينة القديمة ليومين، قبل أن يتدخل الجيش بالرصاص الحي لكتمان أنفاس هذا التمرد، الذي بدأ بتظاهرة صغيرة للتلاميذ، وانتهى إلى مجزرة كبيرة، لكن مفاجأة هذا المناضل كانت أن أولئك الذين كانوا مشغولين بـ«هواية السبسي» هم الذين قادوا هذا التمرد وهذا العصيان… ومنذ ذلك الوقت ما عاد صاحبنا يثق في اللامبالاة التي تظهر على المقهورين، ولا في الهدوء الذي يعم السطح، لأن ما يعتمل في الأعماق لا يظهر دائما على السطح.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عودة إلى الكتاب الأسود عودة إلى الكتاب الأسود



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:50 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
المغرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب

GMT 07:21 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النجمات اللواتي ارتدين البدلة الرسمية هذا العام
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib