كاتب عمومي

كاتب عمومي

المغرب اليوم -

كاتب عمومي

بقلم - توفيق بو عشرين

في أواخر السبعينيات، أفرج إدريس البصري وزير الداخلية آنذاك عن عدد من المعتقلين اليساريين، عن طريق وضع أسمائهم في لوائح العفو التي كان الراحل الحسن الثاني يستعملها لتخفيف الاحتقان في سنوات الجمر… البصري لم يكتف بالإفراج عن دفعة كاملة من هؤلاء اليساريين الذين قبلوا (التوبة عن النضال) والاشتغال لصالح النظام، الذي كانوا يحلمون بإسقاطه، بل ألحقهم ابن سطات بوزارة الداخلية كموظفين سلم 11، وعهد إليهم بقراءة وشرح خطابات ومقالات وتصريحات وبيانات اليسار الجذري في تلك الأيام… مرة استدعى السي إدريس (كما كان يلقب آنذاك) أحد كتاب اليسار المزعجين وقال له: (ما معنى تغيير البنيات الإقطاعية للنظام الكومبرادوري في المغرب؟)، فبدأ هذا المثقف اليساري يشرح الماء بالماء كما تقول العرب، ويتفلسف على وزير داخلية برتبة بوليسي قديم، ويستعرض عليه أدبيات اليسار الماركسي، فقاطعه البصري قائلا: “أنا لم أفهم شيئا مما تقول، لكن عرضت ما كتبت على أصدقائك اليساريين الذين يشتغلون عندي، ففسروا لي الجملة أعلاه، أنها تعني بالملخص المفيد (الدعوة إلى قلب نظام الحكم). نقطة إلى السطر، لهذا سأمنع منشوراتكم لأنها تمس النظام العام …

الوظيفة التي كانت هذه (الكتيبة اليسارية) تقوم بها في مغرب الحسن الثاني مازلت مستمرة إلى اليوم، حيث ظهرت (كتائب) أخرى أقل موهبة من اليمين واليسار والوسط، تتكلف بشرح توجهات الأحزاب السياسية وزعمائها، وميولات الصحافيين المستقلين ونواياهم، واتجاهات المثقفين والأدباء والشعراء والأساتذة تجاه السلطة والسلطوية، والغرض هو تعزير (شبكة التصفية) التي يشيدها نظام الحكم ويقوم بتحديثها بين الفينة والأخرى، حتى لا يمر إلى منصب أو سفارة أو مسؤولية أو وزارة أو منصب أو مكسب، إلا من هو صديق للسلطة، متفهم لإكراهاتها، ويقبل أن يلعب دورا في سيناريو مكتوب بعناية حتى يظل الوضع على ما هو عليه، وحتى تظل (الهيمنة الإيديولوجية) للدولة على المجتمع مستمرة، وتنتج قيم السمع والطاعة والولاء وقول لا على حد تعبير الشاعر: ما قال لا قط إلا في تشهده / لولا التشهد كانت لاءه نعم..


 
كتيبة الموظفين المقنعين هاته لا تعتبر أنها تقوم بعمل مشين، ولا ترى في دورها ما يعيبه، هي تفصل الخبرة عن الهدف، والثقافة عن الأخلاق، والرأي عن الالتزام، والموقف عن الموقع. مرة سألت صحافيا مشهورا عرف بالدفاع عن السلطة في كل الأحوال قبل أن يبتعد عنها، لأن حكامها الجدد أهملوه أو لم يعطه حقه، وقلت له ألا ترى أنك تغير المعطف بدون مبررات منطقية، وإنك أمس كنت مع السلطة في الحلو والمر، والآن أنت ضد السلطة في الحلو والمر، بدون سبب منطقي، فرد بسهولة واستسهال: (الصحافي مثل الكاتب العمومي القديم، يفتح دكانه ويشرع في كتابة الشكايات والطلبات ورسائل الغرام والتعزيات، وأي شيء يطلبه من يدفع ثمن الكتابة)، وأضاف (لماذا تعيبون على الصحافيين تغيير معاطفهم ولا تعيبون على المحامين تغيير مرافعاتهم، فتجدهم يوما يدافعون عن مجرم وغدا يرافعون ضد برئ). قلت له الصحافي شيء والمحامي شيء آخر، ونظام العدالة مبني على حق الجميع في محام يدافع عنه حتى وإن كان هذا الأخير غير مقتنع مائة في المائة ببراءة موكله، ثم إن المحامي لا يخفي أنه يتقاضى أتعابا للدفاع عن موكله، أما مرافعاته فلا تخرج خارج قاعة المحكمة، ولا تدعي أنها تنقل خبرا أو تنشر رأيا أو تخدم مصلحة عامة، وهذا خلاف وظيفة الصحافي أو الأديب أو الشاعر أو المثقف المقيد بأخلاقيات الصحافة أو العلم أو الأدب …

في السابق، كانت (كتيبة البصري) تستحيي من الإعلان عن نفسها، وتختبئ لتقوم بعمل (تشكامت) في شبه سرية. أما اليوم، فالكتيبة الجديدة تفتخر بعملها، وتتبجح بكونها تشتغل عند سلطة ما أو جهاز ما أو شخص ما أو وزارة ما أو إدارة ما، محاولة إصباغ وظيفتها بطابع الوطنية المغشوش، والمحبة الزائفة للبلاد وللعلم والنشيد الوطني، فيما هي تتقاضى أجرا على هذا الحب، وثمنا على هذا العشق الحرام. وغدا إذا منعت عنها الأعطيات انقلبت 180 درجة، الكتيبة الجديدة انتقلت من الدفاع عن السلطة واختياراتها، إلى مهاجمة كل من (يتعفف) عن لعب هذا الدور، وكل من اختار طريقا آخر لأداء مهامه باستقلالية عن السلطة ومنطقها وأجندتها وحساباتها… الانقلاب الذي وقع في سلم القيم في مجتمعنا جعل هؤلاء يتبجحون بمناصبهم الوهمية وألقابهم الكاذبة وأدوارهم الصغيرة …

تتحدد هوية المثقف أو الصحافي أو الأديب أو الباحث أو الشاعر أو الرسام أو الفنان… بثلاثة شروط، أولها الاختصاص في مجال اشتغاله، وثانيها الاستقلالية عن السلطة السياسية أو المالية أو الإدارية أو حتى المجتمعية، (فالعبد لا رأي له والخادم لا قرار له). وثالثها، أن يكون لهذا الإنسان الذي يدعي إنتاج المعنى والفكر والثقافة والإعلام في المجتمع موقف من الشأن العام، وفق ما تمليه عليه قناعته أو ميولاته أو طبقته وثقافته… هذا هو ما يفرق بين المثقف والموظف، وبين الصحافي و(لمسخر) والفنان و(البوق) والشاعر و(الظواهر الصوتية)…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كاتب عمومي كاتب عمومي



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:50 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
المغرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب

GMT 07:21 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النجمات اللواتي ارتدين البدلة الرسمية هذا العام
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib