طبيعي ان تنظر دول المنطقة بحذر شديد إلى المفاوضات غير المباشرة التي بدأت في فيينا بين "الجمهوريّة الاسلاميّة" من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. ما يفرض الحذر، والمخاوف في الوقت ذاته، ان ايران تعرف تماما ماذا تريد فيما الادارة الأميركية تعاني من حال ضياع تعود أساسا إلى جهلها الكامل بالشرق الأوسط.
كان ابرز دليل على ذلك مكافأة إدارة جو بايدن الحوثيين فور دخول الرئيس الأميركي الى البيت الأبيض مطلع السنة الجاريّة. رفعت الإدارة الحوثيين عن قائمة الإرهاب قبل ان تكتشف ان مثل هذه الخطوة شجّعت من يسمون نفسهم "جماعة انصار الله" على مزيد من العدوانية والرغبة في فرض امر واقع على الأرض اليمنيّة. اين المنطق في ما فعلته الإدارة الأميركية التي لم تكتشف سوى حديثا ان الحوثيين ليسوا سوى مجرّد أداة ايرانيّة وان قرارهم عند السفير الإيراني في صنعاء وليس في ايّ مكان آخر.
كلّما مرّ يوم، يتبيّن انّ إدارة جو بايدن استمرار لإدارة باراك أوباما الذي اختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج وازماتهما بالملفّ النووي الإيراني وصولا الى توقيع اتفاق صيف العام 2015 الذي لم يأخذ في الاعتبار السلوك الإيراني في المنطقة. على العكس من ذلك، وفّرت إدارة أوباما لـ"الجمهوريّة الاسلاميّة" كلّ ما تحتاجه ايران من موارد ماليّة كي تزداد شراسة في الترويج لمشروعها التوسّعي على حساب دول عربيّة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
في انتظار ان تثبت الإدارة الأميركية العكس، لا يوجد في واشنطن في الوقت الراهن من يدرك خطورة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. هناك إدارة ترفض الاعتراف بانّ اخطر ما حصل منذ العام 2015، لدى توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني بين "الجمهوريّة الاسلاميّة" ومجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا، يتمثّل في تطوير ايران لحجم عدائيتها لمحيطها المباشر وغير المباشر من جهة وتطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة من جهة أخرى.
ليس معروفا تماما هل إدارة بايدن راغبة في البحث الجدّي في السلوك الإيراني... أم تريد العودة الى اتفاق 2015 بايّ ثمن كان من دون أي اخذ في الاعتبار للنتائج التي ستترتب على ذلك؟
في حال بقي الضياع مهيمنا على الإدارة الأميركية، ليس مستبعدا ان تشهد المنطقة مزيدا من الخراب والدمار والبؤس. فكلّما مرّ يوم يزداد الشعور بانّ إدارة بايدن لا تريد السماع بالشرق الأوسط والخليج. على دول المنطقة تدبّر امرها بنفسها في مرحلة الغياب والضياع الأميركيين. يجسد الغياب والضياع الموقف من اليمن، الذي سبقت الاشارة اليه أعلاه. يحقّق الحوثيون، أي ايران، تقدّما على جبهة الحديدة. يعني ذلك بكلّ بساطة ان الإدارة الاميركيّة مستعدة للاعتراف بان ايران موجودة على البحر الأحمر وان الامر لا يقتصر على السماح بتحول اليمن الشمالي قاعدة صواريخ ايرانيّة ومصدر تهديد يومي للأمن السعودي والخليجي...
ما الذي تريده الإدارة الأميركية التي تبدو مستعدة للذهاب في مسايرة ايران الى ابعد حدود من منطلق انّ لديها هموما أخرى من بينها الوضع الداخلي والتحدي الذي تمثّله الصين؟
ثمّة ما يدعو الى القلق الشديد عندما تنسحب اميركا من أفغانستان بالطريقة التي انسحبت بها غير آبهة بمصير المواطنين الأفغان الذين اعادتهم "طالبان" الى العيش في ظلّ نظام لا علاقة له من قريب او بعيد بايّ قيم حضاريّة في هذا العالم. يبدو مصير المواطن الافغاني آخر همّ لدى الإدارة الاميركيّة. ما ينطبق على المواطن الافغاني ينطبق أيضا على المواطن الإيراني نفسه وعلى المواطن العراق والسوري واللبناني... واليمني الذي يعيش في ظلّ ما يفرضه الحوثيون من تخلّف وقيم بالية وبائسة على مساحة واسعة من اليمن، بما في ذلك مدينة ذات تاريخ عريق اسمها صنعاء!
هل تتعرّف إدارة بايدن الى الشرق الأوسط والخليج قبل فوات الأوان؟ المدخل الى ذلك ادراك ان ايران، منذ العام 1979، ليست دولة طبيعيّة. ليس لديها شيء من سلوك الدولة الطبيعيّة المهتمة برفاه شعبها اوّلا.
يفترض في الإدارة الأميركية سؤال نفسها الى ايّ حد ستذهب ايران في شراستها؟ من الواضح انّ لا حدود لما يمكن ان تذهب اليه اكان ذلك في العراق او لبنان او اليمن او في سوريا حيث اوجدت امرا واقعا يتمثّل في تغيير التركيبة السكانيّة، من منطلق مذهبي، في هذا البلد الواقع تحت خمسة احتلالات.
تصعّد ايران في كلّ الاتجاهات وتعمل في الوقت ذاته على الاستحواذ على السلاح النووي. سيكون السؤال الذي سيطرح نفسه يوميا في المرحلة المقبلة مرتبطا بأفق السياسة الإيرانية التي لم تؤد الى اليوم سوى الى تفريغ البلد من افضل الناس فيه. الإيرانيون من أصحاب الكفاءات والفكر المنفتح هاجروا من ايران بعد رفضهم العيش في ظلّ النظام الذي أسس له آية الله الخميني الذي فرض نظريّة "الوليّ الفقيه" التي تجعل من "المرشد" صاحب كلّ السلطات في البلد والقائد المعصوم.
لا افق للسياسة الإيرانية، لا في ايران نفسها ولا في المنطقة. كلّ ما في الامر أنّ هناك نظاما يعتقد ان تصدير ازماته الى خارج حدوده يضمن بقاءه في السلطة. هذا كلّ ما في الامر، خصوصا انّه لا يهمّ السياسة الايرانيّة ما يحلّ بالإيرانيين انفسهم او بالدول العربيّة الأربع التي تظنّ "الجمهوريّة الاسلاميّة" انهّا واقعة تحت سيطرتها وهي العراق وسوريا ولبنان واليمن.
نعم، الحذر والخوف من الإدارة الاميركيّة مبرران، خصوصا انّ المسؤول الأميركي، روب مالي، المكلّف الملفّ الإيراني لا يوحي بالثقة نظرا الى انّه لا يرى في المنطقة غير ايران ولا يبحث سوى عن كيفية مراعاتها.
للمرّة الالف، هل ايران دولة طبيعيّة ام لا؟ هل تدرك إدارة جو بايدن ذلك... ام تعتبر ان لا ضرورة لاي جهد إضافي يصبّ في معرفة خطورة حصر التعاطي مع "الجمهوريّة الاسلاميّة" بالملف النووي من دون التطرق الى صواريخها وطائراتها المسيّرة وميليشياتها المذهبيّة!