هناك حسابات أميركية وأخرى إيرانية. من الواضح أنّ ليس في واشنطن من يريد الدخول في صدام عسكري مباشر مع إيران. هذا لا يعني بالضرورة أن الحرب الأميركية على “الجمهورية الإسلامية” ستتوقّف. هذه الحرب مستمرّة وهي اقتصادية قبل أيّ شيء آخر، خصوصا أن الإدارة الأميركية تعرف تماما أن المطلوب إيرانيا مواجهة عسكرية محدودة تعلن بعدها إيران أنّها حققت انتصارا على “الشيطان الأكبر”.
تحاول إيران تكرار تجربة صيف العام 2006 في لبنان. في نهاية الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، أعلن الحزب بعد موافقته على كلّ كلمة وحرف في قرار مجلس الأمن الرقم 1701، أنّه حقّق “انتصارا إلهيا” على إسرائيل، في حين أن الانتصار الحقيقي كان انتصارا للحزب على لبنان واللبنانيين وذلك في سياق سعيه إلى تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. تريد إيران بكلّ بساطة تكرار تجربة حرب صيف 2006 ولكن على نطاق أوسع هذه المرّة.
من سوء حظّ “الجمهورية الإسلامية” أنّ ليس في واشنطن من هو مستعدّ للسقوط في الفخّ الإيراني. هناك في المقابل من هو مستعدّ للضغط على إيران في المكان الذي يؤلمها أكثر من غيره. هذا المكان هو الاقتصاد والعقوبات التي تزداد يوما بعد يوم والتي بدأت تظهر مفاعيلها بكلّ وضوح في بلد يعيش أكثر من نصف سكّانه تحت خط الفقر.
تخوض إيران الحرب على أميركا انطلاقا من حسابات خاصة بها تعتمد بشكل خاص على أوراقها الإقليمية. تسعى إيران إلى استخدام هذه الأوراق كي تقول إنّها لاعب إقليمي وإن على الإدارة الأميركية التفاوض معها من هذا المنطلق. لعلّ أكثر ما يزعج إيران رفض الأميركيين الاعتراف بوجود هذه الأوراق وصلاحيتها.
من وجهة نظر واشنطن يظلّ الاقتصاد البداية والنهاية. كلّ ما عدا ذلك تفاصيل، بما في ذلك الورقة العراقية التي تمسك بها إيران أكثر من أيّ وقت. يدلّ على ذلك الاعتداء على السفارة البحرينية في بغداد وما تلاه من تجاهل كامل لملاحقة المعتدين عليها وكأنّ هؤلاء يرمزون إلى حقيقة توازن القوى في الداخل العراقي الذي يقاوم الهيمنة الإيرانية.
يبدو أن هذه المقاومة لم تأت بعد بأي ثمار تذكر، خصوصا بعدما تبيّن أن كلام رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي عن ضمّ ميليشيات “الحشد الشعبي” إلى الجيش النظامي لا يعني في الواقع شيئا بالنسبة إلى التخلّص من هذه الميليشيات.
هناك حسابات أميركية مختلفة عن الحسابات الإيرانية. تقوم هذه الحسابات على عدم التجاوب مع الاستفزازات الإيرانية. استخدمت إيران كلّ ما لديها من وسائل كي تردّ أميركا على استفزازاتها. لم يضغط الرئيس دونالد ترامب على الزناد بعد إسقاط إيران لطائرة تجسس أميركية تعمل من دون طيّار في سماء مضيق هرمز.
ليس معروفا إلى الآن هل كانت هذه الطائرة في الأجواء الإيرانية أم لا. لكنّ المعروف أنّها الطائرة الأكثر تطورا في مجال التجسس وثمنها نحو 120 مليون دولار وذلك من دون احتساب كلفة برنامج تطويرها الذي يمكن أن يرفع ثمن الطائرة الواحدة من هذا النوع إلى ما يقارب 180 مليون دولار.
كان إسقاط الطائرة صفعة حقيقية للإدارة الأميركية. إلى ذلك، تبيّن أن إيران تمتلك صواريخ أرض – جو متطورة، بما يعطي فكرة عن عمق العلاقة بين موسكو وطهران…
لم تترك إيران سلاحا إلّا واستخدمته من أجل استفزاز الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة. اعتدت على ناقلات نفط في الخليج وأرسلت طائرات من دون طيّار انطلقت من الأراضي العراقية لتضرب منشآت نفطية في المملكة العربية السعودية. لم يقصّر الحوثيون في خدمة إيران. تأكّد مع مرور الأيّام أنّ الحوثيين في اليمن، أي “أنصارالله” ليسوا سوى أداة إيرانية تستخدم في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني…
كان الردّ الأميركي في كلّ وقت المزيد من العقوبات على إيران. لعل العقوبة الأكبر كانت تمزيق ترامب للاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. نزع خروج أميركا من الاتفاق ورقة التوت التي كانت تلجأ إليها “الجمهورية الإسلامية” من أجل التغطية على نياتها الحقيقية في المنطقة. وفّر لها الاتفاق المليارات من الدولارات التي استخدمتها في تمويل ميليشياتها المذهبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين. امتلكت إدارة باراك أوباما ما يكفي من الغباء كي تنطلي عليها المناورة الإيرانية التي اسمها الملفّ النووي.
حسنا، قررت إيران الآن تجاهل القيود التي فرضها عليها الاتفاق في شأن ملفّها النووي. ما الذي سيعنيه ذلك؟ حتّى لو حصلت إيران على القنبلة النوويّة لن يؤدي ذلك إلى تغيير يذكر على الصعيد الإقليمي باستثناء أن دولا أخرى في المنطقة، مثل السعودية ومصر وتركيا، ستسعى بدورها إلى امتلاك السلاح النووي.
ليست المسألة، ولم تكن يوما، مسألة ملفّ نووي إيراني. هناك سلوك إيراني ليس مقبولا. أساء هذا السلوك إلى إيران نفسها وإلى كلّ دولة من دول المنطقة. هناك للمرّة الأولى إدارة أميركية تعرف ما الذي يؤلم إيران. لذلك كان الردّ على ضرب ناقلات النفط في الخليج احتجاز الناقلة التي تنقل نفطا إيرانيا إلى النظام السوري في جبل طارق.
لا تضغط الإدارة الأميركية على إيران فقط، بل تضغط أيضا على أدواتها، بما في ذلك أداتها اللبنانية وأداتها السورية الممثلة في النظام الذي على رأسه بشّار الأسد.
يبقى سؤال أخير: إلى أي حدّ ستذهب إيران في التصعيد من أجل الانتهاء من العقوبات الأميركية؟ هل تردّ على احتجاز الناقلة في جبل طارق باحتجاز ناقلة بريطانية في الخليج؟
الثابت أنّ إيران تعاني من العقوبات. الثابت أيضا أنّها لا تعرف أنّ هناك مخرجا من هذه العقوبات. اسم هذا المخرج الاعتراف بأنّ العالم تغيّر وأنّ أي رهان على أوروبا من أجل التخلّص من العقوبات هو رهان على سراب ليس إلّا. لم تعد أوروبا قوّة ذات وزن سياسي، خصوصا أن كلّ دولة في القارة تعاني من مشاكل خاصة بها حولتها إلى أسيرة لتلك المشاكل…
أمّا الصين التي تراهن عليها “الجمهورية الإسلامية” من أجل تصدير بعض النفط، فهي مهتمّة قبل كلّ شيء بإيجاد طريقة لإنهاء الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. فوق ذلك، أن أيّ كمّية نفط ستستوردها الصين من إيران لن يكون لها تأثير يذكر على تحسّن الاقتصاد الإيراني.
كلّ ما في الأمر أن هناك عالما جديدا بحسابات مختلفة ترفض إيران الاعتراف بوجوده. يعمل هذا العالم استنادا إلى لغة الأرقام التي ترفض “الجمهورية الإسلامية” التصالح معها. تقول لغة الأرقام إن إيران لم تعد تصدّر من نفط سوى نصف ما كانت تصدّره قبل سنّة، وربّما أقلّ من ذلك بكثير.