لم يكن الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني، بحدّ ذاته، المشكلة في يوم من الأيّام. ليست الصواريخ الباليستية عنوان المشكلة الآن. كانت المشكلة دائما في السلوك الإيراني خارج حدود إيران. كانت المشكلة تحديدا في إطلاق الولايات المتحدة يد إيران أكثر خارج حدودها بمجرد التوصّل إلى الاتفاق المتعلّق بالملف النووي. هناك، إذا، وبكل بساطة الملفّ الآخر الذي تعاني منه المنطقة كلّها، خصوصا الدول العربية ودول الخليج العربي تحديدا. اسم هذا الملفّ السلوك الإيراني لا أكثر. هل إيران دولة طبيعية وعادية قادرة على إقامة علاقات ذات طابع صحّي وسليم مع جيرانها القريبين والبعيدين… أم أنّ لديها ما تصدّره إلى خارج حدودها، غير التخلّف والبؤس؟
تبيّن مع مرور الوقت أن البضاعة الوحيدة التي تستطيع إيران تصديرها هي الفوضى والاستثمار في نشوء الميليشيات المذهبية. هذا ما غضت الولايات المتحدة الطرف عنه منذ 1979، بل كافأت إيران على سلوكها. تكمن خطيئة إدارة جورج بوش الابن في تسليم العراق على صحن من فضّة إلى إيران، بما غيّر كلّ التوازن الإقليمي بشكل جذري. جاءت إدارة باراك أوباما لتستكمل هذه المهمّة وذلك بالانسحاب عسكريا من العراق في العام 2011، ثمّ باعتبار التوصّل إلى الاتفاق في شأن الملف النووي هدفا بحدّ ذاته.
تجاهلت إدارة أوباما كلّ الاعتبارات من أجل تفادي إزعاج إيران أثناء المفاوضات السرّية والعلنية المتعلّقة ببرنامجها النووي. دفع العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمنيون ثمن هذا التجاهل. وكاد أن يدفع الثمن أهل البحرين أيضا لولا الخطوة الشجاعة التي قادتها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها الخليجيون من أجل الحؤول دون سقوط المنامة في يد الغوغاء. كان مطلوبا وقتذاك، في آذار – مارس من العام 2011 تحويل دوّار اللؤلؤة وسط العاصمة إلى بؤرة توتر لنشر الفوضى في كل البحرين وقلب النظام في ظلّ صمت أميركي.
سكتت إدارة أوباما، وقبلها إدارة بوش الابن عن التصرفات الإيرانية في لبنان. لم ترد الولايات المتحدة أخذ العلم في يوم من الأيام بما يقوم به “حزب الله”. كان الشعب اللبناني الذي واجه الحزب بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في شباط – فيراير2005. وعندما احتاج اللبنانيون إلى دعم أميركي حقيقي في أيار – مايو 2008، لدى حصول غزوة بيروت والجبل، لم تحرّك إدارة بوش الابن ساكنا. دفع لبنان وما زال يدفع ثمن تلك الغزوة التي جاءت مباشرة بعد تمكن “حزب الله”، أي إيران، من ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري والأمني السوري من لبنان.
كذلك، سكتت إدارة أوباما عن استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها النظام على الشعب السوري. كان ذلك في آب – أغسطس 2013. من يتذكّر كيف أن أوباما تناسى ما قاله عن “خط أحمر” لا يجوز للنظام السوري تجاوزه؟ ظهر جليّا أن تفادي اللجوء إلى ردّ على قتل مئات السوريين بالسلاح الكيميائي يعود إلى الرغبة في عدم إزعاج إيران التي كانت تتفاوض مع الأميركيين سرّا في سلطنة عُمان في شأن ملفّها النووي.
ليست هذه الأمثلة سوى غيض من فيض التجاهل الأميركي للأفعال والارتكابات الإيرانية في كلّ أنحاء المنطقة. إيران تريد التعاطي بالمفرّق مع الولايات المتحدة، وقد نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد، فيما المطلوب التعاطي الأميركي معها بمفهوم تجارة الجملة.
في الأمس القريب كان الملف النووي ورقة إيران. رمت الآن عبر الوزير محمد جواد ظريف بورقة الصواريخ الباليستية وكأن المشكلة معها محصورة بهذه الصواريخ التي ليست سوى جانب من المشكلة الأوسع، أي ما الذي تفعله إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
كان يمكن تفادي طرح مثل هذا النوع من الأسئلة لو كان لوجود إيران أي إيجابية ناتجة عن وجودها في أي بلد عربي. الأكيد أنّ ما يهمّ الإدارة الأميركية، خصوصا إدارة مثل إدارة دونالد ترامب، هو مصالحها. هناك مرة أخرى خوف من سقوط الإدارة في لعبة البيع بالمفرّق الإيرانية، علما أن كلّ خطابات ترامب، ووزير خارجيته مايك بومبيو، تكشف فهما عميقا لدى الإدارة لطبيعة النظام الإيراني وممارساته المستمرّة منذ العام 1979.
في الحرب الدائرة حاليا، يبدو أنّ الولايات المتحدة سجلت نقاطا مهمّة. أدّت العقوبات الاقتصادية مفعولها من جهة، ولم تحصل مواجهة عسكرية من جهة أخرى. بقيت الحرب في الإطار الاقتصادي المرتبط بالعقوبات. الأهمّ من ذلك كلّه أن كلّ ما فعلته إيران لم يؤدّ إلى ارتفاع لأسعار النفط. هناك عالم تغيّر في مجال النفط والغاز وأسعارهما. هذا عالم كانت ترفض إيران الاعتراف به والتعاطي معه قبل اصطدامها بالحقائق الجديدة.
لو لم تصطدم بهذه الحقائق، لما لجأت إلى التلويح بورقة الصواريخ الباليستية على الرغم من أن الورقة مرفقة بشروط تعجيزية مثل الطلب من واشنطن وقف تزويد حلفائها بأسلحة متطورة. لكنّ المهمّ أن “الجمهورية الإسلامية” وجدت نفسها في وضع من عليه البحث عن مخرج يمكّنها من التفاوض مجددا مع الأميركيين. هل تسقط أميركا مجددا في الفخّ الإيراني، أم تذهب إلى السؤال الذي كان مفترضا أن تطرحه منذ البداية على إيران. هذا السؤال هو ما الذي تريده “الجمهورية الإسلامية” في نهاية المطاف؟
ما لا مفرّ من الاعتراف به أن إيران استطاعت استغلال كلّ الفرص التي سنحت لها في المنطقة، بما في ذلك سقوط العراق، من أجل القول إنّها قوة إقليمية. لم يكن ممكنا لهذه الفرص أن تتوفّر لها لولا قبول الأميركيين التعاطي معها بلغة تجارة المفرّق بدل القول لها إنّ المطلوب صفقة من نوع آخر تشمل الدور الإقليمي لـ”الجمهورية الإسلامية” وسلوكها غير المقبول تجاه محيطها المباشر ودول المنطقة عموما. هل تستطيع إدارة ترامب تغيير قواعد اللعبة وأن تثبت أنّها إدارة أميركية مختلفة عن سابقاتها؟