بعد أيام، تمرّ الذكرى الـ20 على "غزوتي نيويورك وواشنطن" اللتين نفذهما تنظيم القاعدة" الإرهابي بقيادة أسامة بن لادن. بعد عقدين على الحدث، يتبيّن ان العالم، خصوصا الشرق الأوسط والخليج، تغيّر فيما اميركا التي استهدفها الإرهاب لم تتغيّر. لا تزال اميركا تعاني من الامراض نفسها التي كانت تعاني منها قبل الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. لا تؤثّر هذه الامراض باميركا في ضوء قدرتها على التحمّل بفضل الحجم الضخم لاقتصادها، قبل ايّ شيء آخر. يسمح لها هذا الاقتصاد بتلقي الصدمات الواحدة تلو الأخرى... في انتظار خطأ أميركي جديد يذهب ضحيته احد شعوب هذا العالم!
ما يؤكّد ان اميركا لم تتغيّر طريقة خروجها مهزومة من أفغانستان واستسلامها مجدّدا امام "طالبان" من دون أي سؤال او جواب عن مصير الشعب الافغاني الذي سيكون عليه مجددا المعاناة من حركة متخلّفة لا تحترم الانسان وتحتقر المرأة والعلم والتعليم وتعتقد انّ كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، بدءا بالموسيقى والفن، عدوّ لها. ليس ما يضمن الّا تعود أفغانستان حاضنة للارهاب كما كانت عليه الحال قبل 2001. من يضمن، في ضوء ما شهده مطار كابل أخيرا حيث قتل 13 عسكريا اميركيا على يد انتحاري من "داعش" الّا تتحوّل أفغانستان مجددا مكانا يسرح فيه الإرهاب ويمرح؟
لدى اميركا القدرة على هزيمة الفشل، ايّ فشل. كلّ ما تفعله هو الانسحاب وترك البلدان التي حاولت انقاذها لمصيرها. قد تكون القيادة في فيتنام، القيادة الوحيدة التي استدركت نفسها وانطلقت من هزيمتها لاميركا كي تعود حليفا لها في مواجهة الصين. هزم الفيتناميون اميركا عسكريا وانهزموا امامها اقتصاديا وذلك في مصلحة بلدهم ومستقبله...
المفارقة انّ الجيش الأميركي دخل الى كابول في 2001 وأخرج منها "طالبان". لدى مغادرته كابول في 2021، تعود "طالبان" الى العاصمة الأفغانية فيما يسعى أهلها الى الهروب منها بمعيّة الاميركيين. هذه فضيحة ليس بعدها فضيحة بالنسبة الى إدارة أميركية تبحث كلّ يوم عن تبريرات لتفسير فشلها في الخروج بطريقة لائقة من حرب لم تستطع تحقيق انتصار فيها.
ستبقى اميركا اميركا بغض النظر عن المغامرة الافغانيّة. ما هو محزن انّ إدارة جو بايدن ترفض مراجعة ما حصل في السنوات العشرين الماضيّة. لم يشر ايّ مسؤول أميركي الى ما حصل على هامش الغزو الأميركي لأفغانستان.
تميّزت السنوات العشرين الماضيّة بغياب ايّ فهم في واشنطن لمعنى الذهاب الى العراق فيما الجيش الأميركي لم ينه حرب أفغانستان ويقضي نهائيا على "طالبان". ما حصل هو تسليم للعراق على صحن من فضّة الى النظام القائم في ايران، وهو نظام يربط بقاءه بقدرته على التخريب في المنطقة المحيطة به. ستعضّ "الجمهوريّة الاسلاميّة" على جروح الماضي، بما في ذلك قتل "طالبان" لدبلوماسييها في مزار شريف في أيلول – سبتمبر من العام 1998. ستسعى في المقابل الى لعب دور في أفغانستان مستفيدة من قاعدة مشتركة بينها وبين "طالبان". اسم هذه القاعدة هو "القاعدة" التي وجدت من يؤوي بعض رجالاتها في ايران بعد العام 2001.
بغزوها العراق، غيّرت اميركا التوازن في الشرق الأوسط كلّيا. لم يعد العراق، وهو ركيزة من ركائز النظام الاقليمي واحدى اهم الضمانات للتوازن فيه، موجودا. صار بلدا ضائعا يبحث عن هويّة وذلك في ضوء الإصرار الأميركي في عهد جورج بوش الابن على التخلّص من نظام صدّام حسين.
مع سقوط العراق وسقوط صدّام حسين بالطريقة التي اسقط بها، كشفت الولايات المتّحدة عن جهل كامل بالشرق الأوسط. ليس صدّام حسين وحده الذي لم يستوعب معنى ما حدث في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. لم يكن يمتلك القدرة الذهنيّة على فهم ما حدث. لم يفهم معنى ان يقسّم جورج بوش الابن العالم بين "من ما هو معنا ومن ما هو ضدّنا". المهمّ ان اميركا أقدمت على ما أقدمت عليه وغيّرت الشرق الاوسط كلّيا. لم تكتف باسقاط صدّام حسين ونظامه. سمحت لإسرائيل بالانتهاء من ياسر عرفات الذي وضعه ارييل شارون في الإقامة الجبريّة في "المقاطعة" في رام الله... الى ان توفّى في 11 تشرين الثاني – نوفمبر 2004.
لعلّ الأخطر من ذلك كلّه ان الذهاب الأميركي الى العراق وفّر اندفاعة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني وصولا الى اغتيال رفيق الحريري في لبنان بغية السيطرة على البلد. وهذا ما نرى نتائجه حاليا بعدما صارت ايران تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة في لبنان وتمنع تشكيل حكومة فيه. تبيّن مع مرور الوقت ان اغتيال رفيق الحريري لم يكن اغتيالا ايرانيّا لشخص معيّن كبر حجمه لبنانيا وعربيّا ودوليّا، بغطاء من النظام السوري. كان في الواقع اغتيالا لبلد ولصيغة عيش فيه مرفوضة من "الجمهوريّة الاسلاميّة" التي تريد وجودا على البحر المتوسّط.
لم يقتصر الامر على العراق ولبنان. بعد الاجتياح الأميركي للعراق، استسلم بشّار الأسد نهائيا امام ايران. عندما انتفض الشعب السوري في وجه النظام الاقلّوي الذي يتحكّم به منذ نصف قرن، القت ايران بكلّ ثقلها في الحرب التي يشنّها النظام على شعبه. بقيت اميركا في صف المتفرّجين على المأساة السورية ولا تزال...
تغيّر الشرق الأوسط الى غير رجعة. ليس معروفا على ماذا يمكن ان يستقرّ العراق او سوريا او لبنان. اكثر من ذلك، صارت ايران، من خلال اليمن، موجودة في شبه الجزيرة العربيّة وتشكل تهديدا يوميا لدول الخليج.
وحدها اميركا لم تتغيّر. الثابت انّه سيمرّ وقت طويل قبل ان تقدم على أي مغامرة جديدة خارج حدودها. لكنّ الثابت أيضا انّها لن تفعل شيئا لاصلاح ما خربّته في الشرق الأوسط والخليج. تركت دولا عدة مع شعوبها لمصيرها. ستعتمد موقف المتفرّج على المصير البائس للافغان والعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين. لديها ما يكفي من القوّة والمناعة الاقتصادية لتمارس هذه اللعبة التي لا يستطيع احد غيرها ممارستها!