تختزل عبارة قصيرة المأساة اللبنانية، وذلك بعد سنة وبضعة اشهر على انهيار النظام المصرفي اللبناني وبعد أربعة اشهر على كارثة تفجير مرفأ بيروت والعجز عن تشكيل حكومة بسبب موقف رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل.
تقول العبارة: "صارت قضيّة لبنان قضيّة إنسانية". هناك غياب لاي امل في إيجاد مخارج سياسية، اقلّه في المدى المنظور. هذا ما عبرت عنه الرئاسة الفرنسية التي قالت قبل ساعات من افتتاح المؤتمر الجديد الخاص بلبنان انه "لم يتم تنفيذ أي إجراءات مطلوبة في خارطة الطريق الفرنسية للبنان ولم يتم تنفيذ أي شيء في ما يتعلق بمراجعة حسابات مصرف لبنان". أضافت: "تدهور الوضع المالي يعني أن لبنان سيواجه المزيد من المشاكل ويجعل التحقيق المتعلّق بالمصرف المركزي أكثر حتمية".
واوضح مسؤول في الرئاسة الفرنسية إن "القوى العالمية ستواصل الضغط على الطبقة السياسية، لكنه غير مقتنع بأن العقوبات الأميركية سيكون لها أي أثر في ما يتعلق بالمساعدة على تشكيل حكومة ذات صدقية قادرة على تنفيذ إصلاحات من شأنها إتاحة مساعدات مالية دولية".
لبنان لم يعد سوى "قضيّة إنسانية". هذا ما يتضح من المؤتمر الدولي الذي دعت اليه فرنسا وشاركت فيه 32 دولة. هناك قسم من شعب لبنان صار جائعا. لم ينعقد المؤتمر سوى من اجل تقديم مساعدات إنسانية الى لبنان واللبنانيين والحؤول دون موت قسم من مواطني البلد جوعا.
ان يعاني قسم من اللبنانيين من الجوع في السنة 2020 انجاز بحد ذاته. ما كان لهذا الإنجاز ان يتحقّق لولا "العهد القوي" الذي على رأسه قائد الجيش السابق ميشال عون، وهو عهد يريد استعادة حقوق المسيحيين في لبنان بسلاح ميليشيا مذهبية تدعى "حزب الله"!
انعقد المؤتمر بدعوة من فرنسا التي سعى رئيسها ايمانويل ماكرون الى انقاذ ما يمكن إنقاذه معتبرا، في الماضي طبعا، انّ اللبنانيين استوعبوا معنى تفجير مرفأ بيروت. يكتشف الرئيس الفرنسي بعد أربعة اشهر من تفجير المرفأ والكارثة التي حلّت بالعاصمة اللبنانية أنّ لا وجود لطبقة سياسية مستعدة للتعاطي مع مشاكل البلد في العمق. تتصرّف الطبقة السياسية بما يوحي بانّ كلّ شيء طبيعي في لبنان. كلّ همّ رئيس الجمهورية محصور في الاتيان بوزراء تابعين لصهره وذلك كي لا يقال انّ العقوبات الأميركية على جبران باسيل، بموجب قانون ماغنتسكي، انهت حياته السياسية.
ما الذي يمكن ان يجعل العالم يهتمّ مجدّدا بمستقبل بلبنان من زاوية مختلفة بدل تركه يغرق اكثر في ازمته بجوانبها المتعددة في ظلّ "دولة متوحّشة لا يمكن السيطرة عليها" حسب تعبير صحيفة "لو موند" التي خصصت للبنان افتتاحية اقلّ ما يمكن وصف نصّها بانّه "مؤلم".
الموضوع بكلّ بساطة ان لا عودة للسياسة الى لبنان الجائع قبل يبدأ العمل على الانتهاء من معادلة السلاح الذي يحمي الفساد. هذا ما اشارت اليه أيضا الصحيفة الفرنسية نفسها في افتتاحيتها. مثل هذه العودة لن تكون ممكنة في ظلّ العهد الحالي الذي هو عمليا "عهد حزب الله". أسوأ ما في الامر انّ العهد مستعد للقبول بنهاية لبنان من اجل تفادي الاعتراف بانّ جبران باسيل انتهى سياسيا وانّ ليس ما يمكن ان يرفع عنه العقوبات الأميركية في يوم من الايّام.
جاء الرئيس ماكرون الى لبنان مرّتين، الأولى بعد تفجير مرفأ بيروت والثانية في ذكرى مرور قرن على اعلان لبنان الكبير، أي لبنان في حدوده الحالية في اول أيلول – سبتمبر 1920. كان لديه تصوّر آخر عن لبنان. كان يعتقد، قبل اكتشافه ان لبنان بلد ميؤوس منه، انّ هناك طبقة سياسية طبيعية في البلد وانّ هذه الطبقة مستعدة للتخلّي، وان مؤقتا، عن سلوكها المعهود وتقبل بتشكيل حكومة لا وجود فيها سوى لاختصاصيين قادرة على القيام بالإصلاحات المطلوبة. من دون هذه الإصلاحات لا امل للبنان بالحصول على أي مساعدات من صندوق النقد الدولي بعد الاتفاق معه على برنامج انقاذي.
يكتشف ماكرون وزعماء آخرون الآن، ان الطبقة السياسية اللبنانية في واد آخر. إنّها في واد خاص بها لا علاقة له بلبنان بمقدار ما انّ له علاقة ببلد تحوّل الى "ساحة" لا اكثر. هذا يعني انّ لبنان مجرّد ورقة إيرانية في لعبة لا علاقة له بها من قريب او بعيد. في النهاية، ما الذي يمكن توقّعه من بلد يدين مقتل العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة قرب طهران ولا ينبس ببنت شفة بعد اطلاق الحوثيين، وهم أداة إيرانية، من اليمن صاروخا في اتجاه منشأة نفطية قرب مدينة جدّة السعودية؟
سيكتفي العالم بمساعدة لبنان إنسانيا. لا يستطيع هذا العالم ان يفعل اكثر لبلد لا يريد ان يساعد نفسه. كانت ملاحظة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لو دريان في مكانها عندما قال للبنانيين في احدى زياراته لبيروت "ساعدوا أنفسكم، يساعدكم الله".
لم يبق امام فرنسا في هذه الايّام سوى السعي الى مساعدة لبنان إنسانيا في وقت بدأت تدرك تماما انّ وضعه السياسي ميؤوس منه الى ابعد حدود. لا يوجد أي وعي لمدى عمق التغييرات التي تشهدها المنطقة او لمعنى تفجير ميناء بيروت واثره على مستقبل لبنان. لا وجود لقيادة سياسية تدرك انّ كلّ ما قام عليه لبنان بدءا بالمدرسة والمطبعة والصحافة والاعلام والمستشفى... انتهاء بالنظام المصرفي والسياحة والخدمات صار من الماضي. لا وجود حتّى لمن يستوعب الابعاد الناجمة عن توقف مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل في وقت هناك حرب إيرانية – إسرائيلية تدور رحاها في غير مكان من المنطقة، خصوصا في الجنوب السوري وعلى الحدود السوريّة - العراقية.
تظلّ المساعدات الإنسانية افضل من لا شيء في وقت يعيش لبنان في ظلّ فراغ سياسي وانهيار كامل لما بقي من مؤسساته. يعيش لبنان في فراغ في ظلّ احداث كبيرة تشهدها المنطقة وفي ظلّ إدارة أميركية جديدة. ستحتاج إدارة جو بايدن الى وقت طويل قبل بلورة سياستها الشرق أوسطية والخليجية... واتخاذ موقف مما يدور في لبنان ومن صفقة جديدة قد تعقدها او قد لا تعقدها مع ايران، صفقة تذكر بالصفقة التي عقدتها إدارة باراك أوباما في العام 2015.