يظل الكتاب الأخير لأمين معلوف وعنوانه “غرق الحضارات” من أفضل ما يمكن أن يتمتع به قراء اللغة الفرنسية هذه الأيّام… على أمل أن يأتي دور قراء العربية قريبًا.
هناك وضوح ليس بعده وضوح بالنسبة إلى ما يعاني منه عالمنا هذا، وهناك أيضًا ربط بين الثورات التي شهدها العام 1979، من ثورة اليمين الأوروبي المحافظ التي جاءت بمارغريت تاتشر إلى السلطة في بريطانيا والتي مهّدت لوصول رونالد ريغان إلى البيت الأبيض… إلى ثورة آية الله الخميني التي غيّرت الشرق الأوسط والمنطقة، كما غيّرت إيران في تجاه الابتعاد عن الغرب.
هناك في كتاب أمين معلوف كلام لرجل عاقل يتمتع بصفاء ذهني قلّ نظيره. يشرح أمين معلوف بطريقة بسيطة واستنادًا إلى تجارب شخصية لماذا كلّ هذا القلق على مصير العالم عموما ومنطقتنا خصوصا. يصدر الكلام عن شاهد عيّان على السقوط اللبناني. من بلد صغير كان يمكن أن يكون نموذجا ناجحا للعيش المشترك بين كلّ أنواع الطوائف والمذاهب والإثنيات… إلى بلد يبدو مصيره بائسا!
يستوقف في الكتاب ما كتبه أمين معلوف عن السنة 1967 والهزيمة العربية التي عايشها كطالب جامعي والتي ما زالت تتفاعل. اختزل نتائج الهزيمة بجملة جاء فيها “أكاد أميل إلى أن أكتب بالأسود على الأبيض: يوم الاثنين الواقع فيه الخامس من حزيران – يونيو 1967، كانت ولادة حال اليأس العربية”. يبدو أنّ حال اليأس لا تزال سائدة. لكنّ ما يستوقف أيضًا في الكتاب جملة قصيرة ورد فيها الآتي “الهزيمة توفّر أحيانا فرصة لم يستطع العرب التقاطها. الانتصار يصبح أحيانا فخّا لم يستطع الإسرائيليون تفادي الوقوع فيه”.
لم يستطع العرب التقاط الفرصة التي وفّرتها الهزيمة التي أصرّ جمال عبدالناصر، الذي كان محط آمال الأجيال العربية وقتذاك، على وصفها بـ”النكسة”. تضمّن الكتاب تحليلا دقيقا لشخصية جمال عبدالناصر ولأسباب الهزيمة وما تلاها، وصولا إلى واقعنا العربي الراهن.
يدفع أمين معلوف القارئ إلى التفكير بعيدا عن السطحية. لذلك، يتحوّل “غرق الحضارات” إلى منصة يمكن الانطلاق منها لسبر أغوار ما هو آت علينا في ظلّ حال الانسداد التي يشهدها العالم على كلّ صعيد. يحكم العالم حاليا أشخاص لا علاقة لهم بالسياسة بالمعنى المتداول للسياسة. هل دونالد ترامب سياسي أم رجل أعمال يتصرّف وكأن البيت الأبيض مكتب لشركة كبيرة لديها مصالح في مختلف أنحاء العالم؟ ما هي الصين؟ ما هذا الإنجاز الاقتصادي الضخم، الذي لا مثيل له، الذي حققه دينغ هشياو بينغ الذي استطاع نقل البلد الأكثر سكانا في العالم، إلى مكان آخر بعد تصفيته لتركة ماو تسي تونغ؟
في كتاب أمين معلوف كلّ الأسئلة الصعبة، بما في ذلك تلك التي يفضّل العرب عموما تفاديها. تلك الأسئلة مرتبطة بكيفية نهوض ألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. هناك معجزة ألمانية وأخرى يابانية بعد تخلّص البلدين من الروح العدائية التي جعلتهما يركزان على المجهود الحربي وعلى الجيش وكلّ ما هو تابع لهما. انصرفت ألمانيا واليابان إلى شؤونهما الداخلية، وخصصتا كلّ قدراتهما للداخل الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية، فيما لا يزال اليأس مخيّما على عالمنا العربي الذي يعاني أيضا من الشرخ السنّي – الشيعي الذي ترسّخ بعد نجاح الثورة الإيرانية وقيام “الجمهورية الإسلامية”.
من بين أكثر المقاطع التي تثير الإعجاب في “غرق الحضارات” تلك التي كان فيها العالم العربي عالما طبيعيا يتجاوب فيه الناس العاديون مع الأفكار اليسارية ومع طروحات كارل ماركس. أكثر من ذلك، لم يكن هناك تمييز بين السنّي والشيعي. يكتب أمين معلوف أن جمال عبدالناصر السنّي كان متزوجا من شيعية هي تحية كاظم ابنة تاجر إيراني استقرّ في الإسكندرية. لم يثر أحد هذا الموضوع في تلك الأيام، لا محبو ناصر ولا الذين كانوا يشنون الحملات عليه. كانت الخصومة القديمة بين الفرعين الأساسيين للإسلام (السنّة والشيعة) “جزءا من الماضي”.
يشكّل “غرق الحضارات” وصفا حيّا للمأساة التي تعيشها المنطقة، وهي مأساة ليس ما يشير إلى أنها ستنتهي قريبا. صار السلام العربي – الإسرائيلي مستحيلا. لا يتحمّل العرب وحدهم المسؤولية. إسرائيل نفسها تجد نفسها في مواجهة حائط مسدود. ليس ما وصلت إليه حاليا نتاج انتصارها على العرب فحسب، بل هو نتاج أحداث داخلية إسرائيلية أيضا. ففي العام 1975، بدأ الاستيطان في الضفة الغربية المحتلّة. غيّر الاستيطان الواقع على الأرض. استقر متطرفون في مكان في الضفّة المحتلّة اسمه أوفرا. أمر رئيس الوزراء اسحق رابين بإجلائهم بالقوّة، لكنّ شمعون بيريس الذي كان وزيرا للدفاع رفض ذلك. هكذا ولدت المستوطنة الأولى. كان ذلك في ظلّ حكومة عمّالية وذلك قبل أن يصل اليمين إلى السلطة في العام 1977.
في “غرق الحضارات” حنين إلى الماضي ويأس من المستقبل ليس في لبنان والعالم العربي والمنطقة فقط. هذان شعوران يجتاحان العالم حاليا. يجتاحان شخصا مثلي يعيش بعض الوقت في لندن ويتابع ما وصلت إليه بريطانيا العظمى، خصوصا في حال خلف سياسي فارغ اسمه بوريس جونسون تيريزا ماي، المرأة التي لا طعم لها ولا لون. هذا الشعور بالحنين إلى الماضي واليأس من المستقبل دفع أمين معلوف إلى كتابة فصل خصصه لمصر التي هاجر إليها جدّه لوالدته. الأكيد أنّه كان يتحدث عن مصر الثلاثينات والأربعينات ومطلع الخمسينات. وقتذاك، كانت أم كلثوم تغنّي “رباعيات الخيام” والمهاجرة السورية الأصل أسمهان تحيي “ليالي الأنس في فيينا” والمصرية اليهودية ليلى مراد (من عائلة اسولين) تهز الصالات والمسارح بأغنيتها “أنا قلبي دليلي”.
لم يقتصر إشعاع مصر على فنانيها وموسيقييها وممثليها الذين كانت لغتهم العربية. كان هناك كلود فرنسوا المغني الفرنسي الذي ترعرع في مصر (الإسماعيلية) وكان وراء أغنية “على طريقتي” التي انتشرت في العالم بفضل فرانك سيناترا والتي كان أوّل من غنّاها بالإنكليزية بول آنكا، وهو أميركي من أصل سوري- لبناني. تضيق المساحات لدى الحديث عن تلك المرحلة التي كان مجيء أحمد شوقي فيها إلى لبنان يتصدّر الصفحات الأولى للصحف اللبنانية. كان أحمد شوقي “أمير الشعراء”. كان عنوانا للإشعاع المصري في المنطقة كلّها، كذلك كان طه حسين.
يتوج التشاؤم بالمستقبل الذي يميّز “غرق الحضارات” الوضع الأوروبي الذي كان يمكن أن يمثل الأمل. هناك مشروع أوروبي يتلاشى حاليا. كانت أوروبا مهيأة، عبر تجربة الاتحاد الأوروبي، لتكون بمثابة قارب نجاة للعالم. لكنّ هذا القارب يبدو أنّه يغرق أيضا. لم يذهب أمين معلوف في تشاؤمه إلى النهاية بإصدار حكم قاطع بأن كلّ شيء في عالمنا يغرق. لا يزال هناك أمل بأن “يدًا خفيّة” يمكن أن تحول دون الكارثة… في عالم صار كلّ شيء فيه مراقبًا.