خيرالله خيرالله
واضح، في ضوء تصرفاته الأخيرة، خصوصا منذ فرض إبراهيم رئيسي رئيسا للجمهوريّة، أنّ النظام الإيراني قرّر السير في الخيار الكوري الشمالي الذي يعتمد على الاختباء خلف القنبلة النووية والصواريخ الباليستية. صحيح أنه ليس لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” قنبلة نوويّة بعد، لكنّ الصحيح أيضا أنّها قررت الذهاب إلى النهاية في محاولة الحصول عليها في المدى القريب.بالنسبة إلى النظام الإيراني، يبدو كلّ شيء مبرّرا من أجل البقاء في السلطة، بما في ذلك القمع اليومي للشعب ومتابعة إفقاره وصرف المليارات على برنامج نووي لا هدف منه سوى ابتزاز العالم ودول المنطقة.
اللافت أن النظام الأقلّوي في سوريا يسير في حماية النظام الإيراني ورعايته. اتخذ بشّار الأسد خياره أيضا. صار يستمدّ انتصاراته على الشعب السوري من انتصارات النظام الإيراني على الإيرانيين وما هو أبعد من إيران. صار يستمدّ انتصاراته مما تحقّقه إيران في العراق وسوريا نفسها ولبنان واليمن حيث مارس الحوثيون آخر أعمالهم البطولية عن طريق إعدام مواطنين، بينهم مراهق، بتهمة تسهيل اغتيال القيادي صالح الصماد قبل بضع سنوات. ليس معروفا ما الذي يريد الحوثيون إظهاره من خلال هذا العمل الوحشي غير تدجين اليمنيين في مناطق سيطرتهم أكثر وبث الرعب في النفوس.
المفارقة أنّ روسيا التي أنقذت النظام السوري في العام 2015، عندما تدخلت مباشرة في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، لغير مصلحة هذا الشعب طبعا، تتصرّف حاليا بطريقة تؤكّد أنّ لا منطق لسياستها السورية باستثناء منطق خدمة إيران. لا ينفع أيّ تأنيب من فلاديمير بوتين لبشّار الأسد، من نوع التأنيب الذي وجهه إليه حين استقبله قبل أيّام قليلة في موسكو، عندما يرفض الرئيس الروسي أخذ العلم بالواقع السوري. يلخّص الواقع السوري أن القرار في دمشق لطهران وليس لأحد آخر. إذا كان في الحكومة اللبنانية الحالية التي شكلها نجيب ميقاتي وزراء تابعون مباشرة للأجهزة السورية، فإنّ الفضل في ذلك يعود إلى هيمنة “حزب الله” على لبنان وليس بسبب استعادة الأسد نفوذه في البلد. هذه المعادلة البسيطة غائبة كلّيا عن الرئيس الروسي.
في سياق اعتماد الخيار الكوري الشمالي حيث لا مكان سوى لثقافة الموت، يدفع الكثيرون في المنطقة ثمنا كبيرا. العراقيون يدفعون ثمنا، كذلك السوريون واللبنانيون واليمنيون. يبدو القرار الإيراني بالتصعيد أكثر من واضح. يدلّ على ذلك الإصرار على التأخير في عقد صفقة مع إدارة جو بايدن في شأن العودة إلى الاتفاق المتعلّق بالبرنامج النووي الإيراني. يعتقد النظام الإيراني أنّ الوقت يعمل لمصلحته وأنّ لا خيار آخر أمام إدارة بايدن سوى الرضوخ للشروط الإيرانيّة مع ما يعنيه ذلك من رفع للعقوبات الأميركية بمجرّد قبول إيران العودة إلى اتفاق 2015 الذي وقعته مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في عهد باراك أوباما.
هل حسابات “الحرس الثوري”، الذي بات يسيطر كلّيا على النظام الإيراني، في محلّها؟ قد تكون هذه الحسابات في محلّها إذا أخذنا في الاعتبار أنّ إدارة بايدن لم تقدم إلى يومنا هذا سوى على ارتكاب أخطاء، خصوصا في ضوء الطريقة التي تمّ بها الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان. في المقابل، تجهل إيران أنّ موضوع رفع العقوبات الأميركية مسألة في غاية التعقيد. القرار برفع كلّ العقوبات ليس بيد الإدارة وحدها، بغض النظر عن الأخطاء التي ترتكبها. هناك عقوبات لا يمكن أن ترفع من دون موافقة الكونغرس الذي ليس، إلى إشعار آخر، أداة طيّعة في يد بايدن…
في غياب أيّ تفكير آخر في طهران، غير تفكير السير في الخيار الكوري الشمالي، ستشهد المنطقة المزيد من الصعيد. لن تنفع الجهود الهادفة إلى جعل الحوثيين في اليمن يعتمدون لغة العقل والاقتناع بأنّ متابعة ما يقومون به في هذه المرحلة بالذات يكشف أنّ لا أفق لمشروعهم الهادف إلى تحويل شمال اليمن كيانا يدور في الفلك الإيراني…
لن تنفع في الوقت ذاته الجهود الهادفة إلى جعل الجنوب السوري منطقة آمنة لا مكان فيها للميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران. في غياب موقف روسي واضح بعيدا عن التذبذب، ستبقى هذه المنطقة تهديدا للأردن ومنطلقا لتهريب المخدرات والسلاح عبر المملكة الهاشميّة إلى دول الخليج العربي. مثل هذا التهريب جزء لا يتجزّأ من التصعيد الإيراني الذي يمارس انطلاقا من اليمن أو داخل العراق وفي لبنان. تبيّن أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” استطاعت لعب أوراقها اللبنانية بشكل جيّد في ظلّ سياسة فرنسيّة لا علاقة لها بالواقع اللبناني من قريب أو بعيد. إذا وضعنا شخصية رئيس مجلس الوزراء ميقاتي، الذي يعرف ما يدور في العالم، جانبا… وإذا استثنينا عددا قليلا من الوزراء في الحكومة الجديدة، يمكن القول إنّ إيران حققت انتصارا جديدا على لبنان واللبنانيين. بات في استطاعتها أن تفرض، بفضل السياسة الفرنسيّة، الحكومة التي تريدها عليهم. لا يمكن الاستخفاف بمثل هذا الانتصار الإيراني الجديد في لبنان، وهو انتصار يأتي بعدما صارت “الجمهوريّة الإسلاميّة” تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة. هذا ما أثبتته بالفعل وليس بمجرّد الكلام عندما أوصلت ميشال عون وصهره جبران باسيل إلى قصر بعبدا في الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل – أكتوبر 2016.
ما الذي ستفعله إيران بانتصاراتها؟ تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال. لكن الأمر الوحيد الأكيد أنّ التصعيد الإيراني لا يبشّر بالخير، لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا في اليمن. كلّ ما يمكن توقعه هو المزيد من البؤس في غير مكان في وقت تزداد فيه الإدارة الأميركيّة حيرة كلّ يوم. نحن أمام إدارة، هي مزيج من إدارتي جيمي كارتر وباراك أوباما. إنّها إدارة لا تعرف ماذا تريد. إدارة في حال ضياع تعتقد إيران أن في استطاعتها التلاعب بها. لن تنجح في ذلك لسبب بسيط. يعود هذا السبب إلى أن “الجمهوريّة الإسلامية”، حتّى ولو استفادت من كلّ الضياع الأميركي ومن كلّ التواطؤ الفرنسي، لا تمتلك نموذجا تستطيع تصديره إلى خارج حدودها، باستثناء نموذج البؤس. لذلك نجدها مضطرة إلى الخيار الكوري الشمالي الذي يمكن أن يحافظ على النظام فيها، لكنّه لا يستطيع البناء لا داخل إيران ولا خارجها.