يمكن تسمية مأزق ادلب بانه مأزق تركيا ومأزق رجب طيب اردوغان بالذات، قبل مأزق روسيا وايران والنظام.
الجميع في مأزق. اسم هذا المأزق، مأزق ادلب الذي تورّط فيه النظام السوري وروسيا وايران وتركيا وأدوات إيرانية مثل "حزب الله" في لبنان. يؤكّد مأزق ادلب ان سوريا التي عرفناها انتهت منذ تسع سنوات. انتهت عمليا عندما قرّر بشّار الأسد في آذار – مارس 2011 اللجوء الى السلاح لقمع ثورة شعبية حقيقية عبّر من خلالها السوريون عن رفضهم لنظام اقلّوي تأسّس عمليا في الثالث والعشرين من شباط 1963.
وقتذاك، نفّذ الضباط العلويون الثلاثة الكبار (محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) انقلابهم تمهيدا لاقامة نظام جديد بدأ يتبلور في تشرين الثاني – نوفمبر 1970 عندما تفرّد حافظ الأسد بالسلطة بعد مرحلة أولى استبعد من خلالها محمّد عمران ثمّ صلاح جديد.
ليست معارك ادلب سوى نتيجة طبيعية لممارسات نظام رفع شعار "الأسد او نحرق البلد"، نظام يعتقد ان ايران جمعية خيرية وان همّ روسيا محصور في كيفية بقاء بشّار الأسد. لا يري النظام ان ايران تسعى الى تغيير الطبيعة الديموغرافية لسوريا وان روسيا مهتمّة بالورقة السورية لاهداف متعلّقة بالغاز اوّلا وامتلاك ورقة تستطيع من خلالها التفاوض مع الجانب الاميركي في شأن قضايا كبيرة اخرى ثانيا وأخيرا.
قبل الخوض في الوضع الراهن في ادلب وابعاد المعارك التي تهدّد بمواجهة روسية – تركية، يبدو ان الجانبين يبحثان عن كيفية تفاديها، يمكن ايراد ملاحظة. حصل تطوّر في غاية الاهمّية أخيرا. يتمثّل هذا التطور في مقتل عناصر من "حزب الله" بنيران القوات التركية وذلك للمرّة الاولى منذ تورّط الحزب في الحرب على الشعب السوري بطلب مباشر من "المرشد" الايراني علي خامنئي قبل ثماني سنوات. كيف سيردّ الحزب على ذلك وأين سيردّ؟ هل يأخذ علما ان اللعبة في ادلب اكبر منه بكثير وانّ توريط شبان لبنانيين في معارك من هذا النوع، لا طائل منها، جريمة لا تغتفر وليس هناك ما يبرّرها... اللهمّ الّا اذا كانت ايران يمكن ان تستفيد بشيء من سفك دماء لبنانية لخدمة مشروع توسّعي ذي طابع مذهبي لا افق من ايّ نوع له.
ما لا يمكن تجاهله في موضوع ادلب انّ اللاعبين الكبيرين، أي تركيا وروسيا على استعداد للتضحية بحلفائهما من اجل تفادي مواجهة مباشرة بينهما. الى اشعار آخر، لا توجد لاي طرف من الطرفين مصلحة في مثل هذه المواجهة وهما يسعيان في نهاية المطاف الى تأمين مصالحهما في سوريا حتّى لو كان ذلك على حساب السوريين او على حساب شبّان لبنانيين ينتمون الى "حزب الله".
هذا لا يعني ان تركيا في وضع مريح، على الرغم من نجاحها في قطع طريقي M4 وM5 الاستراتيجيين. على العكس من ذلك، يمكن تسمية مأزق ادلب بانه مأزق تركيا ومأزق رجب طيب اردوغان بالذات، قبل مأزق روسيا وايران والنظام. يمكن ذلك بعدما تراكمت الأخطاء التي ارتكبها اردوغان في السنوات العشر الأخيرة منذ اعتقد انّ في استطاعته ان يكون سلطانا عثمانيا آخر في القرن الواحد والعشرين متجاهلا ان تركيا ليست مهيّأة لذلك وانّها لا تستطيع لعب أدوار اكبر منها ومن إمكاناتها المادية.
ركب اردوغان رأسه منذ البداية. بدل ان يأخذ المبادرة في اليوم الاوّل لبدء الثورة السورية وتنفيذ وعده بتخليص الشعب السوري من النظام الاقلّوي العائلي، اذا به يطلق الشعارات الكبيرة ويماطل في الوقت ذاته. راح يتهيّأ للوصول الى الرئاسة وابعاد الشخصيات البارزة في حزبه عن ايّ موقع مهمّ. عمل اردوغان على اضعاف عبدالله غلّ واحمد داوود اوغلو وغيرهما وتهميشهما، بدل التركيز على الدور التركي في سوريا ما بعد بشّار الاسد.
ما نشهده حاليا في ادلب هو نتيجة تردّد شخص اسمه رجب طيّب اردوغان وضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة تركيا. هل يعود ذلك الى نرجسيته وعقده... ام الى اجندة الاخوان المسلمين، بكلّ تخلّفها، التي تتحكّم بتصرّفاته والتي اوصلته أخيرا الى ارسال سوريين للقتال في ليبيا.
في كلّ ما فعله الرئيس التركي في سوريا، كان هناك خطأ يجرّ الى خطأ آخر اكبر منه. ماذا عن الحلف الجديد الذي أقامه مع روسيا وصولا الى شراء منظومة صواريخ "اس. اس 400" منها؟ ليس معروفا ضد من يريد استخدام هذه الصواريخ. الآن، بعد الذي حصل في ادلب، لا يجد اردوغان غير الاستنجاد بحلف شمال الأطلسي والأميركيين والسعي الى الحصول على صواريخ "باتريوت" الاميركية في ضوء تكبّد تركيا عشرات القتلى في ادلب ومحيطها. في الواقع، كانت روسيا وراء تكبيد تركيا كلّ هذه الخسائر البشرية، لكنّ اردوغان يفضّل القاء اللوم على النظام السوري كي يحافظ على طريق العودة الى التفاوض مع موسكو مستقبلا.
رفع اردوغان سقف المطالب التركية في سوريا كثيرا. لا شكّ ان لديه مخاوف من الاكراد المدعومين اميركيا. ولكن لماذا محاولة ابتزاز أوروبا عن طريق فتح الحدود التركية امام هجرة اللاجئين السوريين الى اليونان وغير اليونان؟ هل تفيد سياسة الابتزاز في شيء... ام تكشف حقيقة الرئيس التركي وحال التخبط والضياع التي يمرّ فيها منذ اعتقد ان في استطاعته ان يعيد، عبر شخصه امجاد الدولة العثمانية في ذكرى مرور قرن على انهيارها؟
يظلّ الفعل التركي في سوريا محكوما باعتبارات معيّنة. من اهمّ هذه الاعتبارات الرغبة في عدم المواجهة المباشرة مع روسيا. الآن، استفاق اردوغان على ان روسيا سعت عبر الاجتماعات التي انعقدت في استانة الى كسب الوقت ليس الّا. الآن استفاق على ان وجود الجيش التركي في سوريا جاء بناء على طلب من الشعب السوري. هذا صحيح الى حدّ ما، لكن التحدث عن مثل هذه الشرعية تأخّر كثيرا. تأخّر اكثر مما هو مسموح به لسياسي كان مفترضا به اللجوء الى الحسم منذ شهر آذار - مارس العام 2011.
مؤسف ان تدفع سوريا والسوريون ثمن كل الأخطاء المرتكبة في السنوات التسع الأخيرة، بما في ذلك الأخطاء الروسية والإيرانية والتركية. ما هو مؤسف اكثر من ذلك، ان المعارك الدائرة في ادلب والتي يمكن ان تخرج في أي لحظة عن اطار معيّن، تؤكد ان الازمة السورية ما زالت في بدايتها. تركيا لا تستطيع ان تتراجع، كذلك روسيا. محكوم على الجانبين التوصّل الى اتفاق ما يضمن مصالح كلّ منهما. من الآن الى اليوم الذي يتمّ التوصّل فيه الى مثل هذا الاتفاق ستسيل دماء كثيرة في انتظار معرفة ما الذي ستكون عليه سوريا في مرحلة ما بعد بشّار الأسد.