لم يكن خطابا افتتاحيا عاديا لمجلس الأمة الكويتي الجديد الذي ألقاه نائب أمير الكويت ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح. كان وثيقة عهد جديد حسب تعبيره، رسمت حدود الصلاحيات بين مختلف السلطات وحددت الأدوار ونظمت العلاقات بينها… وصولا إلى تحفيز الكويتيين على الرقابة والمحاسبة بعد تأكيد القيادة الكويتية أنها لن تنحاز إلا لمصالح الناس وأملهم في التغيير وتوقهم إلى أن تلحق بلادهم بركب التنمية الذي قطعت فيه الدول الخليجية المجاورة أشواطا كبيرة وبعيدة.
عندما يتحدث نائب أمير الكويت عن وثيقة عهد جديد، إنما يفتح الباب عمليا لمرحلة تأسيسية لا بد أن تعبر منها البلاد إلى مستقبل مختلف. القضية ليست ترفا أو تفصيلا في مسار دولة إنما هي قضية بقاء أو عدم بقاء. لذلك كان التركيز في الخطاب بشكل متناسق على جملة التحديات الداخلية المتعلقة بالتنمية وتطوير النظام السياسي وتحصين الديمقراطية بالعمل والإنتاج من جهة وعلى وجوب التصدي للتحديات الخارجية بروح المسؤولية والوحدة الوطنية وعدم الانجراف، من جهة أخرى، وراء إعلاء الصوت المذهبي والقبلي على حساب الدولة والنظام والانتماء.
استحوذت هذه النقطة على حيز كبير من خطاب الشيخ مشعل الأحمد الذي قال “لقد كانت الكويت ومازالت وستظل، بإذن الله تعالى، نموذجا يُحتذى به في ظل مجتمع عاش فيه الحاكم وشعبه في جسد واحد، عرف أهله بالمحبة وفعل الخير للجميع، فلا عصبية تفرق بينهما ولا عنصرية تمزقهما ولا خلافات جوهرية تعصف بهما، ونحن اليوم نعيش ظروفا دقيقة وتقلبات إقليمية ودولية خطيرة وفتنا محيطة بنا من الداخل والخارج، ما بين حاقد يخطط ومتربص ينتظر وحاسد يتأمل السقوط، ونحن منشغلون مع الأسف الشديد بأتفه الأسباب والأمور والتي يمكن تجاوزها بحكمة العقلاء”.
يعطي مثل هذا الكلام فكرة عن ضرورة تحمّل نواب الأمّة في الكويت مسؤولياتهم وأن يحسنوا في الوقت ذاته أداءهم بعيدا عن كلّ نوع من المزايدات، خصوصا أن الأوضاع الإقليميّة والدولية لا تسمح بذلك…
غالبا ما يخرج من يلتقيهم الشيخ مشعل الأحمد بشعور واحد: القلب المفتوح للحديث كفرد من العائلة بصراحة وتواضع وتقبل الملاحظات، والحزم الواضح في أن الاستقرار خط أحمر وأن النظام قوي بالتفاف الناس ومحبتهم. ولذلك كان خطاب وثيقة العهد منحازا للناس الذين قال لهم نائب الأمير إن القيادة السياسية أوفت بوعدها في إجراء انتخابات حرة ونزيهة سبقتها قرارات تصحيحية تتعلق بالقيود، وأوفت بوعودها في عدم التدخل بانتخابات رئاسة المجلس ولا باللجان النيابية، وبالتالي فإن المنتظر اليوم من ممثلي الأمة أن يفوا هم بوعودهم وإلا فعلى “أبناء الوطن متابعة ومساءلة ومحاسبة ممثليهم”.
أما الخطوط التي رسمها نائب أمير الكويت للنواب فكانت التحذير “من قصر النظر في وضع ملفات المتطاولين والمخالفين والخارجين على القانون ضمن الأولويات”. تبدو هذه النقطة مهمة جدا كون بعض النواب يلجأ إلى طرح ملف العفو عن محكومين بقضايا معينة كأولوية بدل أن يعالج قضايا الإسكان والتعليم والصحة مثلا. ومن الخطوط أيضا “التشديد على البعد عن إضاعة الجلسات بمهاترات ومشاجرات” كما كان يحصل في السابق، والتحذير “من المساومة على القوانين للحصول على مكاسب شخصية”.
بالنسبة إلى الحكومة، تحدث الشيخ مشعل الأحمد عن أسلوب جديد لتعاطيها مع الملفات من جهة ولتعاطي القيادة معها من جهة أخرى. إذ شدد على وجوب أن تضع الحكومة خطة إستراتيجية وصولا إلى الحوكمة الرشيدة والوقوف على ضرورة النزول إلى القاعدة لتلمس احتياجات المواطنين، بل تحدث في التفاصيل أكثر حين وجه باعتماد “المراجع الخفي” و”المبلغ السري” للوقوف على كفاءة الإدارات من أجل الثواب والعقاب. واللافت كان ذكره أن الحكومة إن أخطأت فستجد أن القيادة السياسية هي أول من يحاسبها، قائلا “سأكون أول مَن يتابع ويحاسب الحكومة عن تنفيذ برنامج عملها قبل أعضاء المجلس”، وهو يوصل بذلك رسالة إلى النواب بأن يعملوا على مبدأي التشريع والرقابة أكثر من عملهم على تصيّد الحكومة بحجج مختلفة كون العهد الجديد لن يتهاون في المحاسبة.
في خطاب وثيقة العهد لمسة وفاء للماضي، للمتقاعدين الذين خدموا الكويت في الإدارة وأعطوا الكثير ولا بد أن تقابلهم الدولة بعطاء مماثل. كما في الوثيقة تحفيز على دخول المستقبل من عنصر الشباب، إذ طالب الشيخ مشعل الأحمد بتأمين كل ما يخدم مشاركتهم “في بناء كويت الغد”. كذلك كانت معبرة جدا إشارته إلى أن الإعلام الرسمي في الكويت هو إعلام ملك الشعب لا الحكومة ولا بد من “إشراك الشعب في مراقبة أعمال السلطتين” من خلال نشاطات وندوات وورش عمل.
كذلك، من بين الخطوط التي رسمها نائب أمير الكويت لاستقامة العلاقة بين السلطات وجوب “احترام صلاحيات الأمير الدستورية واختصاصاته باعتبارها من صميم إطلاقات أعمال السيادة”، وعدم السماح “بضياع مكانة الدولة وهيبتها وإضعاف أركان الحُكم فيها”.
لا تستقيم “المرحلة التأسيسية” لكويت مختلفة إلا بالاستقرار، ولذلك كان لا بد من تحذير صادق مبني على معطيات حقيقية، حين طالب نائب الأمير من البرلمان والحكومة “البعد عن الانشغال بصغائر الأمور، والتركيز على ما ينفع البلاد والعباد، فما من بلد تعددت فيه الاختلافات وكثرت فيه الصراعات وقادته الأهواء والشهوات وخانت فيه الانتماءات والولاءات، إلا وتمزق شمله وتقاتل أهله وانفرط عقده وتبعثر أمنه وضاع استقراره، والتاريخ يشهد بذلك والواقع من حولنا يصدق ذلك ويؤكده”.
إنها قضية بقاء أو عدم بقاء، ولذلك فمن يقرأ سطور خطاب نائب أمير الكويت وما بين السطور يلمس ذلك الإصرار القوي والالتزام الحديدي بأن البقاء والتطور والتنمية والاستقرار والأمن والوحدة كلها عوامل ترتبط بصلب مسؤوليات الحكم التي يستحيل التفريط بأمانتها… وهنا على كل معني بخطاب وثيقة العهد الجديد أن يفهم تماما مقاصده.