تطرح زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان لبغداد في هذه الظروف بالذات تساؤلات عدّة. من بين هذه التساؤلات إلى أي مدى يمكن أن يذهب العراق في انتهاج سياسة مستقلّة عن «الجمهوريّة الإسلاميّة» التي وضعت يدها عليه وما زالت تعمل منذ عشرين عاما على تكريسه جرما يدور في الفلك الإيراني؟
هناك ما يدعو إيران إلى التساؤل ما إذا كان رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني ضمانة لإيران ونظام الملالي و«الحرس الثوري» في العراق أم أنّه بالفعل شخصيّة عراقيّة تميل إلى أن تكون مستقلّة وتؤمن، مثل أكثرية العراقيين، بأن العراق هو العراق وايران هي إيران.
أي أنّ السوداني يختلف، إلى حدّ ما، عن قادة الميليشيات المذهبيّة العراقية التي قاتلت العراق إلى جانب إيران بين العامين 1980 و1988 وعادت إلى بغداد في العام 2003 على دبابة أميركيّة. عادت هذه الميليشيات التي بات يتشكّل منها «الحشد الشعبي» إلى بغداد كي تكون نواة لعراق تابع لإيران ليس إلّا.
في عشرين عاماً مرّت، منذ سلمت إدارة بوش الابن، العراق على صحن من فضّة إلى إيران، لا همّ لدى «الجمهوريّة الإسلاميّة» سوى تكريس الهيمنة على العراق من منطلق مذهبي.
من المفيد في كلّ وقت العودة إلى مؤتمر للمعارضة العراقيّة انعقد في لندن أواخر العام 2002، قبل اربعة أشهر من بدء الاجتياح الأميركي للعراق. صدر عن ذلك المؤتمر ما يمكن وصفه باخطر البيانات في ما يتعلّق بالوضع الداخلي في العراق.
تحدث بيان خرج عن مؤتمر، نظمه الأميركي والإيراني في الوقت ذاته، عن «الأكثريّة الشيعية في العراق»، بمعنى أن الحكم في العراق يجب أن يكون شيعياً. كانت تلك العبارة هدفاً إيرانيّاً بحد ذاته، بل تتويجاً للانتصار الإيراني على العراق، وهو انتصار لم يتحقّق في حرب السنوات الثماني التي خاضها صدّام حسين في مواجهة آية الله الخميني.
كان الطموح الأوّل للخميني، بعد فرضه النظام الذي يريده في إيران، «تصدير الثورة» إلى العراق من منطلق مذهبي ليس إلّا.
ما يمكن أن يثير حالياً تساؤلات في طهران، الكلمة التي القاها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر ميونيخ للأمن قبل فترة قصيرة. كانت الكلمة، نظرياً، مقاربة علميّة وواقعيّة وموضوعيّة للوضع العراقي. عكست وجود شخص في موقع المسؤولية في بغداد يعرف المنطقة والعالم ويعرف خصوصا أهمّية العراق وما آل إليه.
يؤكد ذلك أنّ السوداني بدأ كلمته بالإشارة إلى أنّ العراق «لم يعد يشكل مشكلة أمنية أو سياسية أو جزءاً من مشاكل مكافحة الإرهاب، بل هو مفتاح للحل في المنطقة. العراق حجر الزاوية لنظام إقليمي مستقر مبني على التعايش والتعاون والشراكات الاقتصادية التي تخدم المنطقة».
لا شكّ أنّ كلمة رئيس الحكومة العراقية، في المؤتمر المهمّ الذي استضافته ميونيخ، تضمنت كمّية لا بأس بها من التفاؤل، خصوصا أنّ العراق بات بلدا في غاية التعقيد. لكنه تبقى لافتة تلك الإحاطة الشاملة بما يواجه العالم من جهة والتحديات الخاصة بالعراق من جهة أخرى.
إنّها تحديات مرتبطة بمكافحة الفقر والفساد وإجراء الإصلاحات الاقتصادية «التي تأخذ حيزاً كبيراً من جهدنا لتنويع مصادر الدخل واستثمار الموارد»، على حد تعبير رئيس الحكومة العراقيّة.
ثمة فارق بين الكلام والنتائج. المهمّ أن تكون لدى رئيس الحكومة العراقية القدرة على ترجمة كلامه على أرض الواقع، خصوصا عندما يقول «أعمل شخصياً على وضع إصلاحات هيكلية للاقتصاد وإصلاحات جذرية للنظام المالي والمصرفي ليتماشى مع النظام العالمي».
ليس ما يمنع الاعتراف بأنّ رئيس الحكومة العراقيّة قال في ميونيخ كلاما كبيراً لا يجرؤ كثيرون غيره على قوله. قال مثلاً إن «العراق انتصر على الإرهاب، وقواتنا الأمنية على درجة عالية من الكفاءة للمحافظة على الأمن. وموقفنا واضح وصريح، إننا لا نحتاج لقوات قتالية من التحالف الدولي لكننا نحتاج للاستشارة والتدريب والتبادل الأمني».
هذا يعني بكلّ بساطة غياب عقدة وجود مستشارين أميركيين أو غربيين في العراق مع توضيح أنّنا «نعمل على تحديد أعداد مستشاري التحالف الدولي في العراق بشكل يحافظ على سيادة بلدنا وهي رؤية تحظى بقبول شعبي وسياسي».
لم يذهب رئيس الوزراء العراقي إلى لعبة تدوير الزوايا عندما تطرّق إلى العلاقة بالولايات المتحدة و«الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران. قال «الولايات المتحدة شريك إستراتيجي للعراق من خلال اتفاقية الإطار وليست شريكاً أمنياً فقط.
إيران جار تربطنا به علاقات تاريخية في مختلف الصعد وإقامة العراق علاقة متوازنة مع أميركا وإيران أمر مقبول وفق قاعدة المصالح الوطنية للعراق».
لم يترك السوداني مجالاً لم يتطرق إليه، بما في ذلك وجود «لجان تعمل على مشاريع اقتصادية تمثل شراكات منتجة بين العراق والأشقاء في المنطقة وباقي العالم». أشار أيضا إلى أن «كبريات الشركات العالمية في كل القطاعات تقوم بعمليات استثمار في العراق ولدينا قانون للاستثمار هو الأفضل في المنطقة. وأكدت (الشركات العالميّة) الاستثمار في الغاز الذي سيمدّ سوق الطاقة في العالم». ما العمل بأفضل قانون للإستثمار في المنطقة من دون بيئة آمنة تسمح بالإستثمار وتسمح للمستثمر بخلق فرص عمل من جهة وبسحب أرباحه والإطمئنان إلى أن لا ميليشيات مذهبية مسلّحة أو جهات أخرى ستضغط عليه وتبتزّه من جهة أخرى.
وحدها الأيّام ستكشف طينة السوداني. لكنّ الأكيد أن العبارة التي قالها في ميونيخ عن أنّ «الولايات المتحدة شريك إستراتيجي للعراق من خلال اتفاقية الإطار وليست شريكاً أمنياً فقط» تثير تساؤلات في طهران. تصدر هذه العبارة في وقت باتت «الجمهوريّة الإسلاميّة» شريكا لروسيا في حربها الأوكرانيّة. هذه الحرب التي تخوضها روسيا مع أوروبا والولايات المتحدة مسألة حياة أو موت لفلاديمير بوتين ولنظام مثل النظام الإيراني أيضا.
هل لدى العراق هامش للمناورة يسمح له بممارسة نوع من الاستقلالية عبرت عنهما كلمة محمّد شياع السوداني في ميونيخ، وهي كلمة حملت وزير الخارجية الإيراني إلى بغداد؟!