كان افتتاح الدورة الجديدة لمجلس النواب المغربي مناسبة ليؤكّد الملك محمّد السادس أهمّية تحصين الوضع الداخلي المغربي كمنطلق لحماية المملكة ودورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، فضلاً بالطبع عن المكاسب التي تحققت في السنوات الـ23، منذ اعتلائه سدة العرش.
ألقى العاهل المغربي يوم الجمعة الماضي خطاباً أمام النواب في مبنى البرلمان في الرباط. كان لافتاً تركيزه على موضوعين داخليين فقط. يتعلّق الموضوع الأول كما ورد على لسان محمّد السادس نفسه بـ«إشكالية الماء، وما تفرضه من تحديات ملحة، وأخرى مستقبلية، والثاني يهمّ تحقيق نقلة نوعية، في مجال النهوض بالاستثمار».
صارح محمّد السادس مواطنيه، مشيراً إلى أنّ «الماء أصل الحياة، وهو عنصر أساسي في عملية التنمية، وضروري لكل المشاريع والقطاعات الإنتاجية.
من هنا، فإن إشكالية تدبير الموارد المائية تطرح نفسها بإلحاح، بخاصة أن المغرب يمر بمرحلة جفاف صعبة، هي الأكثر حدة، منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ولمواجهة هذا الوضع، بادرنا منذ فبراير الماضي، باتخاذ مجموعة من التدابير الاستباقية، في إطار مخطط مكافحة آثار الجفاف، بهدف توفير ماء الشرب، وتقديم المساعدة للفلاحين، والحفاظ على الماشية. وإدراكاً منا للطابع البنيوي لهذه الظاهرة ببلادنا، ما فتئنا نولي كامل الاهتمام لإشكالية الماء، في كل جوانبها».
بعد عرض مفصل للتدابير والإجراءات المتخذة، بما في ذلك بناء خمسين سدّاً في السنوات الماضية، فيما هناك عشرون سدّاً قيد الإنجاز، وضع العاهل المغربي مواطنيه أمام حقيقة أن المغرب «يعيش في وضعية إجهاد مائي هيكلي. ولا يمكن حل جميع المشاكل، بمجرد بناء التجهيزات المائية المبرمجة، رغم ضرورتها وأهميتها البالغة.
لذا، ندعو لأخذ إشكالية الماء، في كل أبعادها، بالجدية اللازمة، لاسيما عبر القطع مع كل أشكال التبذير، والاستغلال العشوائي وغير المسؤول، لهذه المادة الحيوية.
كما ينبغي ألا يكون مشكل الماء، موضوع مزايدات سياسية، أو مطية لتأجيج التوترات الاجتماعية.
وكلنا كمغاربة، مدعوون لمضاعفة الجهود، من أجل استعمال مسؤول وعقلاني للماء.
وهو ما يتطلب إحداث تغيير حقيقي في سلوكنا تجاه الماء. وعلى الإدارات والمصالح العمومية، أن تكون قدوة في هذا المجال».
انتقل محمّد السادس بعد ذلك إلى موضع الاستثمار، مؤكداً أنّه «يحظى ببالغ اهتمامنا.
وإننا نراهن اليوم، على الاستثمار المنتج، كرافعة أساسية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحقيق انخراط المغرب في القطاعات الواعدة، لأنها توافر فرص الشغل للشباب، وموارد التمويل لمختلف البرامج الاجتماعية والتنموية».
ما يدل على متابعة العاهل المغربي لكلّ التفاصيل المتعلقة بالوضع على الأرض في المغرب، إشارته إلى أن جذب المملكة للاستثمار الأجنبي «يتطلب رفع العراقيل، التي لاتزال تحول دون تحقيق الاستثمار الوطني لإقلاع حقيقي، على جميع المستويات».
عرض محمد السادس أهمّية الموضوعين المطروحين.
لم يكتف بذلك. طرح حلولاً عمليّة إن بالنسبة إلى الماء أو بالنسبة إلى الاستثمار من دون تجاهل أهمّية المغاربة المقيمين في الخارج وضرورة تقديم كلّ التسهيلات المطلوبة لهم.
ما يميّز المغرب في واقع الحال، وجود ملك يصارح مواطنيه. يعود ذلك إلى الثقة المتبادلة بين العرش والمواطن، ثقة تعتبر امتداداً لـ«ثورة الملك والشعب» في العام 1953.
كانت تلك الثورة وقفة مشتركة للملك محمّد الخامس، رحمه الله، والشعب في مواجهة المستعمر الفرنسي.
أخطأ المستعمر الفرنسي في حساباته عندما راهن على الفصل بين الملك والشعب.
لا يزال هناك إلى اليوم، من يتابع ارتكاب مثل هذا الخطأ من منطلق الجهل بالمغرب وبطبيعة العلاقة بين المواطن والعرش بكلّ ما يرمز إليه.
كان لافتاً خلو الخطاب الأخير لمحمّد السادس من أي موضوع خارجي ولو بالإشارة.
يدلّ ذلك على أهمّية سدّ أي ثغرات في الداخل المغربي، وهو داخل مطلوب تحصينه في عالم مليء بالتعقيدات، من حرب أوكرانيا وما خلفته من كوارث في مجال الطاقة والغذاء... إلى التغييرات المناخيّة.
من ينظر، بحدّ أدنى من الموضوعيّة والتجرّد، إلى الوضعين الإقليمي والدولي، يتأكّد أن المغرب بألف خير.
يعود ذلك، قبل كلّ شيء، إلى وجود ملك يعرف بلده والمنطقة والعالم.
ملك يهتمّ بالتفاصيل الدقيقة، ملك ركز دائماً على المواطن المغربي وكيفية تحسين وضعه على كلّ صعيد. في خطاباته الأخيرة، تطرّق إلى مستوى التعليم.
لم يخف أهمّية رفع مستوى التعليم في المدارس الحكوميّة.
تطرق، بين ما تطرّق إليه، إلى ضرورة تعلّم اللغات الأجنبيّة، إلى جانب العربيّة طبعاً. ذهب في أحد خطاباته إلى إثارة موضوع تسهيل معاملات المغاربة، المقيمين في الخارج، في القنصليات والسفارات.
ما كان للمغرب الذي حقّق اختراقات في كلّ المجالات على الصعيد الخارجي أن يتحول إلى جزيرة استقرار في المنطقة كلّها وجسراً إلى أفريقيا لولا تحصين الوضع الداخلي عبر شبكة أمان لشعبه.
مكنته شبكة الأمان هذه من عبور جائحة «كوفيد - 19» بأقلّ مقدار من الضرر.
كانت الجائحة تحدّياً للمغرب، حيث أشرف الملك شخصياً على اتخاذ الإجراءات المطلوبة، على الرغم من القدرات المحدودة للدولة المغربيّة في غياب الثروات الطبيعيّة.
لولا الوضع الداخلي الحصين، لما كان المغرب نجح في مواجهة حرب الاستنزاف التي يتعرض لها من أجل منعه من تحقيق وحدته الترابية واستعادة صحرائه.
لولا هذا الوضع الحصين، ما كانت الولايات المتحدة اعترفت بـ«مغربيّة الصحراء» ولما كان محمد السادس يستطيع الإعراب بكلّ راحة ضمير عن تقديره «للموقف البناء من مبادرة الحكم الذاتي، لمجموعة من الدول الأوروبية، منها ألمانيا وهولندا والبرتغال، وصربيا وهنغاريا وقبرص ورومانيا».
جدّد أخيراً عبارات التقدير، لـ«ملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية الشقيقة، خصوصاً الأردن والبحرين والإمارات، وجيبوتي وجزر القمر، التي فتحت قنصليات في العيون والداخلة»، ولـ«بقية الدول العربية، التي أكدت باستمرار، دعمها لمغربية الصحراء، في مقدمها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر واليمن».
تبدو عبارة تحصين الوضع الداخلي سرّ النجاح المغربي، وهي عبارة جعلت الملك محمّد السادس يصارح المغاربة مرّة أخرى عندما طرح موضوعي المياه والاستثمار الأجنبي، واضعاً نواب الأمّة أمام مسؤولياتهم أيضاً...