من أطرف المواقف التي تلت التوصل إلى الاتفاق في شأن ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، إصرار مسؤولين لبنانيين، وبينهم نائب رئيس مجلس النواب الياس أبوصعب، على تحديد الحدود البحريّة والبرّية مع سورية.
الهدف المعلن تمكين لبنان من استغلال منطقة بحريّة، يعتقد انّ فيها كميّة من الغاز، تقع على حدوده مع سورية.
ظاهراً، يبدو المنطق اللبناني سليماً. هكذا تتصرّف الدول التي تحترم نفسها.
لكن ذلك لا يحول دون طرح سؤالين في غاية البساطة: السؤال الأوّل، هل النظام السوري راغب في ترسيم الحدود مع لبنان؟ والآخر هل في لبنان دولة تحترم نفسها أم أن لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني لا أكثر؟
قبل كلّ شيء، لا وجود لرغبة لدى النظام السوري، في حال عادت الأمور إليه، في ترسيم الحدود البحريّة والبرّية مع لبنان.
يعود ذلك إلى أنّ النظام السوري حانق إلى أبعد حدود من تمكن «حزب الله»، أي ايران، من التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل بوساطة اميركيّة... من دون علمه.
لم يستشر الطرف الإيراني النظام السوري. كان في حاجة إلى توجيه رسالة إلى أميركا وإسرائيل.
فعل ذلك من دون أي أخذ في الاعتبار للنظام السوري. لم تجد «الجمهوريّة الإسلاميّة»، حتّى، أي حاجة للوقوف على خاطر بشّار الأسد. يعرف رئيس النظام السوري، ولو تظاهر بأنّه لا يعرف، أنّه مدين بوجوده في دمشق للميليشيات التابعة لإيران في المقام الأوّل ولسلاح الجو الروسي الذي جاء لنجدة هذه الميليشيات ثانياً.
جاء سلاح الجو الروسي إلى قاعدة حميميم الجويّة قرب اللاذقيّة في خريف العام 2015 بناء على طلب إيراني نقله الراحل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» وقتذاك.
فعل ذلك من أجل منع سقوط دمشق والساحل السوري حيث التجمع العلوي الأكبر في سورية.
لا وجود لرغبة لدى النظام السوري في أي ترسيم للحدود مع لبنان، لكنّ الأمر يتعلّق في نهاية المطاف بما تريده ايران التي استكملت وضع يدها على القرار السوري في ضوء غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة.
صار الرئيس الروسي في الحضن الإيراني بعدما وجد أن الوسيلة الوحيدة التي تسمح له بمتابعة حربه الخاسرة على أوكرانيا هي المسيّرات الإيرانيّة!
يظلّ السؤال الآخر: هل لبنان دولة كي بطالب بترسيم الحدود مع سورية؟ ظهر بوضوح أنّ قرار ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل كان قراراً إيرانياً.
في ما يخصّ ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، لم يكن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون وصهره جبران باسيل ونائب رئيس مجلس النواب، الذي يحاول الآن تمييز نفسه عن الصهر، سوى واجهة مسيحيّة لإيران لا أكثر.
لا وجود لدولة في لبنان كي يكون هناك حديث عن ترسيم الحدود مع سورية.
قضى «العهد القوي» الذي كان على رأسه عون وباسيل على ما بقي من مؤسسات الجمهوريّة اللبنانية، التي كانت جمهوريّة سعيدة ومزدهرة في مرحلة من المراحل.
كان ذلك قبل سقوط الجمهوريّة اثر توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في مثل هذه الأيّام من العام 1969، وهو اتفاق شرّع السلاح الفلسطيني تمهيداً لتشريع سلاح «حزب الله»، وهو سلاح مذهبي إيراني في الوقت ذاته.
كانت 40 سنة من وجود «حزب الله» وسلاحه كفيلة بإنهاء كل المقومات التي قام عليها لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير قبل ما يزيد على مئة عام. في مقدّم ما جرى تدميره القطاع المصرفي ومرفأ بيروت.
لا يستطيع بلد عاجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة الإقدام على أي مبادرة من أي نوع في أي اتجاه كان. لا في اتجاه استغلال حقل قانا الجنوبي، هذا إذا وجد أي غاز في هذا الحقل، ولا في اتجاه ترسيم الحدود مع سورية.
ليس لبنان في الوقت الحاضر سوى رهينة ايرانيّة، مثله مثل النظام السوري الذي لن يستطيع اتخاذ أي قرار من أي نوع، لا تجاه لبنان ولا تجاه غير لبنان، من دون ضوء أخضر إيراني.
في النهاية، ما الذي يريده النظام الإيراني؟ يريد بقاء لبنان يدور حول نفسه في حلقة مغلقة في انتظار تقرير مصيره في ضوء المتغيرات الإقليمية.
لكن ماذا عن مصير ايران نفسها؟ هل تستطيع الإستمرار في لعب دور القوة المهيمنة على لبنان؟ هذا هو السؤال الحقيقي بغض النظر عما إذا كان لبنان سيتمكن يوما من ترسيم حدوده البحريّة والبرّية مع سورية.
ما حدث أنّ «الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران أدخلت لبنان في قاعة الانتظار.
كل المطلوب تأكيد انّ البلد ليس سوى ورقة ايرانيّة تستخدم في الوقت المطلوب أن تستخدم فيه وفق أجندة تتحدّد في طهران وليس في أي مكان آخر.
ما تبقى بهلوانيات لبنانيّة تمارسها جماعة «العهد القوي»، الذي ليس سوى «عهد حزب الله» لتأكيد أنّها ما زالت موجودة وأنّ افرادها أحياء يرزقون.
الواقع أنّ هؤلاء ليسوا سوى مجرد برتقالة عصرها «حزب الله» الذي لديه الآن حسابات مختلفة مرتبطة بما إذا كان النظام في ايران لا يزال قابلا للحياة أو لا.