يشاهد العالم بالصوت والصورة فصول المرحلة الأخيرة من الإنهيار الكامل للبنان، الذي لن تقوم له قيامة يوما بشكله الحالي. أي لبنان إذا قامت له قيامة يوماً؟ لا جواب عن هذا السؤال في الوقت الحاضر، لكن الكثير سيعتمد على ما ستكون عليه المنطقة كلّها التي هي في مرحلة مخاض، خصوصا في ضوء ما يجري في بلدين مهمين هما العراق وسورية الواقعة تحت خمسة احتلالات.
في لبنان، تفجّرت في الأيّام القليلة الماضية السلطة القضائيّة من داخل. حدث ذلك في بلد عاجز كلّيا عن انتخاب رئيس للجمهوريّة في حين توجد فيه بالكاد حكومة. بات يتوجب على رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، القيام بكلّ نوع من البهلوانيات في كلّ مرّة يريد عقد جلسة لمجلس الوزراء.
لا هدف من الجلسة الحكومية، التي يعترض الرئيس السابق ميشال عون وصهره جبران باسيل عليها بحجة الدفاع عن صلاحيات رئاسة الجمهوريّة، سوى السعي إلى تسيير الحدّ الأدنى من شؤون المواطن العادي في بلد محروم حتّى من الكهرباء.
بل، في بلد اقتربت عملته من أن تصبح من دون قيمة بعدما أغرقه «العهد القويّ» لميشال عون وصهره، وهو «عهد حزب الله»، بكلّ الأزمات دفعة واحدة.
في حال وضعنا الاقتصاد وانهيار النظام المصرفي وسرقة أموال المودعين جانبا، أدى عون وصهره كلّ ما هو مطلوب منهما من ناحية تهجير أكبر عدد من العقول اللبنانية، خصوصا العقول المسيحية من البلد.
هزُلت بالفعل. صار مصير لبنان مطروحاً بعدما فكّكه الاحتلال الإيراني قطعة قطعة وصولا إلى توجيه ضربة قاضية إلى السلطة القضائية منعا لكشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020.
ليس مسموحا معرفة الأسباب التي أدّت إلى تفجير المرفأ، وهو أحد أكبر التفجيرات غير النووية التي عرفها العالم.
وقع المحقّق العدلي طارق بيطار ضحية لعبة مارسها بعد تجميد لمهمته استمر 13 شهراً.
بدل أن يذهب فوراً إلى نشر ما لديه من القرار الظني الذي صاغ 540 صفحة منه، والذي يشرح فيه ما لديه عن تفجير مرفأ بيروت، ذهب إلى استدعاءات لا تقدّم ولا تؤخر.
استغلّ جزءاً من الطبقة السياسيّة اللبنانيّة سلوك القاضي بيطار لإدخال البلد في متاهات كان في غنى عنها بدل التركيز على الظروف التي أحاطت بتفجير المرفأ والسنوات السبع التي خزنت فيها مئات الأطنان من نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في المرفأ.
يكفي معرفة الجهة التي جاءت بالنيترات إلى مرفأ بيروت وتلك التي حمتها طوال كلّ هذا الوقت، لتحديد من وراء التفجير أو على الأصح من وراء التسبب به.
لكن قاضي التحقيق فضّل للأسف الدوران على نفسه بدل الذهاب مباشرة إلى صلب الموضوع، أي إلى تحديد من أتى بالنيترات كي تستخدم في الحرب السورية وفي صنع البراميل المتفجرة التي كان يلقيها النظام على شعبه.
من بعيد، لم يبق من لبنان سوى المؤسسة العسكريّة التي لم يعد معروفا هل تستطيع البقاء صامدة أم لا على الرغم من وعي المجتمع الغربي لأهمّية دعمها بطريقة مدروسة.
من بعيد أيضا، قد يكون مفيدا وضع لبنان في إطار أوسع، أي الإطار الإقليمي. ليس لبنان وحده الذي يتعرّض لعملية تفكيك مدروسة تصبّ في تكريسه مستعمرة إيرانيّة على غرار ما هي عليه سورية والعراق في الوقت الحاضر. الفارق بين الدول الثلاث أنّ العراق يمتلك عائدات نفطية كبيرة تدرّ عليه نحو عشرة مليارات دولار شهريا.
على الرغم من ذلك، تهبط قيمة العملة العراقيّة في سياق عمليّة نهب ممنهجة تمارسها السلطات في «الجمهوريّة الإسلاميّة». لم يعد ذلك سرّا بعدما أطلق المتظاهرون أمام المصرف المركزي في بغداد هتافات تهاجم ايران من دون مواربة وتدين دورها في شفط الدولارات من العراق إلى خارجه بطرق ملتوية في معظم الأحيان.
لا حاجة إلى التذكير يومياً بما تفعله إيران في سورية، خصوصاً لجهة وضع يدها على أراض شاسعة في هذا البلد وتغيير طبيعة مجتمعه كي يكون مجرّد جرم يدور في فلك «الجمهوريّة الإسلاميّة».
تكفي الإشارة إلى مطالب أخيرة لإيران من النظام السوري.
بين هذه المطالب البحث مع دمشق في مشاريع السياحة الدينية الشيعية في سورية وفرص الاستثمار في فنادق وشركات النقل للزوار الشيعة. وصل الأمر بأن طالبت ايران بالسيطرة الكاملة على المرافق والمزارات والمقامات الشيعية في سورية.
في العراق وسورية ولبنان، على الرغم من الظروف الخاصة لكلّ بلد من البدان الثلاثة، تبدو المعركة واحدة تحت عنوان عملية نهب منظمة للبلدان الثلاثة.
هذا يعني بكلّ بساطة أن لبنان الذي بات بلدا ميؤوسا منه لا يمرّ في أزمة اقتصادية فحسب، بل يمرّ أساساً في أزمة سياسية تطرح مسألة وجوده وتضعها على المحكّ. صمدت السلطة القضائية طويلاً.
خضعت في مرات كثيرة لضغوط سياسيّة، خصوصا في فترة الوصاية السوريّة وعهد إميل لحّود، وما سمّي «المرحلة العضوميّة»، نسبة إلى المدعي العام التمييزي عدنان عضّوم، لكنّه لم يحصل في يوم من الأيّام إلى مثل هذا الانقسام العمودي.
هذا الانقسام كان هدفاً من أهداف عون وباسيل اللذين أخذا على عاتقهما ضرب مؤسسات الدولة اللبنانيّة تلبية لطموحات «حزب الله» ومطالبه. من حاول استخدام القضاء كأداة سياسيّة أكثر من عون وصهره وذلك منذ احتجز التشكيلات القضائية في بداية عهده؟ كان يطالب في كلّ وقت بأن يكون لديه قضاة في إمرته، قضاة من نوع غادة عون التي أصرّ رئيس الجمهوريّة السابق على بقائها في موقعها كي تلاحق الذين يريد ملاحقتهم.
في هذه المعركة الواحدة، التي تجمع بين سورية والعراق، يبدو أكثر من ضروري عدم الغرق في التفاصيل واعتماد الوضوح عبر سؤال واحد: من ينهب البلدان الثلاثة ومن وراء نشر الفقر والبؤس فيها؟ لدى الإجابة عن هذا السؤال، تسهل معرفة لماذا التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ممنوع.