لبنان بين صيغتين

لبنان بين صيغتين

المغرب اليوم -

لبنان بين صيغتين

بقلم - مصطفى فحص

بعد أسبوعين فقط على انطلاقتها، نجحت ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) في تفكيك منظومة السلطة اللبنانية الحاكمة منذ نهاية الحرب الأهلية سنة 1989. تفكيك يمكن البناء عليه من أجل إعادة تأسيس الحياة السياسية اللبنانية وفقاً للمتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي فرضتها انتفاضة اللبنانيين ضد الفساد المالي والسياسي للسلطة مجتمعة من دون استثناء لأحد أو لجهة حزبية أو طائفية، فالانتفاضة التي تحولت إلى ثورة تغيير رفع شبابها وشاباتها شعارات القطيعة مع الماضي والحاضر، وتجاوزت مطالبهم في مضمونها مسألة تغيير النظام أو إسقاطه كسلطة سياسية وانتقلت إلى بلورة هوية وطنية جديدة، في إطار صيغة اجتماعية مدنية مخالفة وبشكل صريح للأعراف والثوابت الديموغرافية والطائفية التي قامت على أساسها الصيغة اللبنانية الأولى والثانية، كما أنها - أي الثورة - قطعت الطريق على من كانوا يهيئون المسرح اللبناني للانتقال إلى الصيغة الثالثة، وفقاً لما يعدّونه متغيرات (ديموغ - طائفية) جرت خلال 45 عاماً، وباتت تفرض واقعاً جديداً في التركيبة الاجتماعية اللبنانية، حيث تتمسك هذه القوى الصاعدة بتفسيرها الطائفي المذهبي لمبدأ المجتمع المتداول، ولكنها تشدد على أن يحصل هذا التداول وفقاً لشروطها، وهي لم تزلْ حتى الآن متمسكة بمشروعها رغم اصطدامها المبكر بثورة 17 تشرين (أكتوبر)، ما أدى إلى تراجع مشروعيتها نتيجة لظهور فجوة واسعة بينها وبين جيل جديد يطالب بمجتمع مفتوح يحقق المساواة والحرية بعيداً عن فكرة الهويات الاجتماعية الدينية المغلقة. وفي هذا الصدد يقول مدير المعهد الملكي الأردني للدراسات الدينية أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور وجيه قانصو إن «ما يحصل هو أفق جديد لا يحتاج إلى من يرشِده أو يوجهه أو يرسم له طريق خلاصه، هو أفق مولد لذاته ويخلق حاضره ويتولد مستقبله من داخله، أفق يمتد لأجيال وعقود، أفق يطوي صفحة واقع قائم وأنماط تفكير وأطر علاقات وتضامنات وصلت إلى طريق مسدودة، ويفكك واقعاً أنتج هويات قلقة خائفة عدوانية متضخمة».
إعادة إنتاج القلق الهوياتي كان أحد أبرز الأسلحة التي استخدمها النظام للتصويب على الانتفاضة، حيث لجأ الطرف الأقوى الذي يستحوذ على كامل السلطة إلى عزل مكون أساسي في التركيبة الطائفية اللبنانية نتيجة شعور هذا الطرف بخطر استراتيجي يتشكل على المدى البعيد إذا نجحت ثورة 17 تشرين في فرض التغيير، خصوصاً أن التغيير سيكون بعدة مستويات؛ أبرزها تحرير الفرد أو الجماعة اللبنانية من قيود المنظومة الريعية والزبائنية السياسية، ما يفتح مجالاً للخروج من القيود الطائفية إلى المتسع الوطني الذي من الممكن أن يعيد تركيب الهوية المتعددة التي لخصها المؤرخ اللبناني الراحل كمال صليبي في عنوان كتابه الشهير عن الكيان اللبناني «بيت بمنازل كثيرة»، هذا الكيان الذي يستعد للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيسه «دولة لبنان الكبير 1920» كان منذ الاستقلال سنة 1943 إلى 17 أكتوبر 2019 يشهد صراعاً بين تيارين مؤسسين للكيان حول تعريف الهوية اللبنانية، هذا الصراع كان أحد عوامل اندلاع الحرب الأهلية، ولكنه استمر بعدها وأخذ بُعداً أخطر في السنوات الأخيرة بعد أن اجتمعت القرارات السيادية بيد طرف واحد يتصرف بغلبة مطلقة، ويحاول فرض تفسيره للهوية اللبنانية الجديدة، لكنه من دون أدنى شك يكرر أخطاء التيارين السابقين ويضع نفسه في أزمة الجمع بين الانتماء والخصوصية.
عود على بدء، إلى أزمة المفاهيم بين صيغة السلطة التقليدية في التعاطي مع الدولة والمجتمع وثورة تغيير تمثل جيلاً جديداً يرى مستقبله ضمن صيغة اجتماعية مختلفة تمثل النقيض الكامل للسائد الطائفي والسياسي، لذلك اجتمعت السلطة من أجل الغدر بها وإجهاضها بكل الوسائل، فالصراع بين الطرفين لم يزل في بدايته، ولا يمكن التكهن بمجرياته، خصوصاً أنها انتفاضة غير تقليدية تستمد جزءاً من قوتها من ارتباك السلطة وارتكاباتها، سلطة تعاني من فشل أدواتها في إمكانية إنهاء هذه الانتفاضة، ولكنها مصرة على التمسك بامتيازاتها وترفض التنازل رغم أن الشارع قد تجاوزها في خطابه.
وعليه فإن العودة إلى ما قبل 17 أكتوبر صعبة، كما أن الوصول إلى تسوية ما بين الصيغتين مستحيلة، فالصراع بين شارع يريد إعادة تأسيس الدولة مقابل طرف يريد الحفاظ على امتيازاته سيمر بمعركة مد وجزر وعض أصابع، خصوصاً أن الأزمة الاقتصادية باتت مفتوحة على مخاطر ستؤدي تداعياتها إلى زعزعة المتاريس الطائفية التي لجأت إليها قوى تكابر وترفض الاعتراف بالمتحولات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان بين صيغتين لبنان بين صيغتين



GMT 22:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الحقّ الفلسطيني وحياة القادة وموتهم!

GMT 20:38 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

وسواس العظمة يفسد الناس

GMT 20:34 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

عودة «النووي» الإيراني إلى الواجهة

GMT 20:29 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

نكسة لبنان الرقمية

GMT 20:25 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الحل الإقليمي للقضية الفلسطينية

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 17:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

5 مدن ساحلية في إيطاليا لمحبي الهدوء والإسترخاء
المغرب اليوم - 5 مدن ساحلية في إيطاليا لمحبي الهدوء والإسترخاء

GMT 16:13 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي
المغرب اليوم - أفكار لتزيين واجهة المنزل المودرن والكلاسيكي

GMT 13:16 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

التعرض إلى الضوء في الليل يُزيد من خطر زيادة الوزن
المغرب اليوم - التعرض إلى الضوء في الليل يُزيد من خطر زيادة الوزن

GMT 18:43 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

محمد إمام يتعاقد على فيلم جديد بعنوان "صقر وكناريا"
المغرب اليوم - محمد إمام يتعاقد على فيلم جديد بعنوان

GMT 20:49 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:54 2020 الأربعاء ,10 حزيران / يونيو

لجنة أمنية تتفقد "المركز الجهوي للامتحانات" في فاس

GMT 20:25 2020 الأحد ,07 حزيران / يونيو

نصائح لاختيار أرضيات المنازل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib