بقلم - مصطفى فحص
في زمن صعود الهويات القاتلة، والتمسك بأحادية الموقف كمبرر لإلغاء الآخر، وعدم التمييز بن الخلاف والمختلف، تبرز حركة سعودية رسمية تتميّز عن محيطها العربي والإسلامي في سرعتها وجرأتها، يقودها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، تهدف إلى دفع المجتمعات العربية إلى التخلص من رواسب خطاب التطرف ورفض الآخر، والدعوة الجدية إلى الاعتدال، كمنطق يقود المكونات العربية إلى نبذ الكراهية العصبية والانغلاق اللذين شكلا جزءاً من المشهد العربي والإسلامي في العقود الأربعة الأخيرة.
فمن القاهرة التي تمسّكت تاريخياً بوسطيتها، دشن الأمير محمد بن سلمان مرحلة أكثر وضوحاً وصرامة في التعاطي السعودي مع قضايا عقائدية اجتماعية، بقيت لسنوات طويلة مصدر قلق وإرباك، وتحولت إلى مادة استغلتها جهات خارجية ومنظمات «جهادية»، واستخدمتها لزعزعة الاستقرار الاجتماعي الذي أثر مباشرة على الحياة السياسيةـ وعطل حركة تطورها في أماكن كثيرة من الوطن العربي.
الدعوة إلى إسلام وسطي، رسالة سعودية إلى المتمسكين بماضوية عقائدية من السنة والشيعة، بأن دولهم ومجتمعاتهم التي أنهكها ما أصابها من تجارب أليمة، نتيجة ما زرعوه من تفرقة خلال عقود ماضية، أدت إلى شرخ عمودي بين المكونات العربية، وخلل في المفاهيم الفقهية والأخلاقية، لم يعد لها مكان في هذه المرحلة التي تشهد صعوداً للوعي الوطني الجماعي، المبني على رفع المشتركات إلى مستوى الشراكة الكاملة، والعودة بالاختلاف إلى مكانه الجدلي الذي يعتني به أهل العلم والمعرفة، ولكن في سياقات معتدلة بعيدة عن تداول العامة والعوام الذين استُخدموا أثناء الأزمات كأسلحة اتهام وإنكار بحق الآخر المختلف، حتى لو كان أخاً أو جاراً.
خلال سنة تقريباً برزت خطوات سعودية بناءة، تعطي مؤشرات غير مسبوقة عن المقاربة الجديدة التي تتبناها الرياض في تعاطيها مع التحولات السياسية التي يشهدها جوارها الإقليمي، وقد برزت هذه المقاربة في الانفتاح الشامل على العراق الرسمي والشعبي، خطوة لاقت ترحيباً عراقياً وكانت بعد مرحلة من الغياب، كادت تتسبب في سلخ العراق عن عمقه العربي، وقابل هذا حفاوة سعودية استثنائية، أثناء زيارة رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي للرياض، ومن ثم زيارة الزعيم الشيعي السيد مقتدى الصدر، التي جرت بمباركة من المرجعية الدينية الشيعية في النجف، المُصرة على دعوة العرب إلى تعزيز حضورهم في العراق، من أجل إعادة التوازن في علاقاته مع جيرانه.
وبعيداً عن الشق السياسي والاقتصادي في الانفتاح السعودي على بغداد، فقد كسرت هذه الزيارة الصورة النمطية التي روجت لها وسائل إعلام طائفية وشخصيات سياسية متضررة من مواقف الرياض الجديدة، التي قطعت الطريق على الأصوات الطائفية، ولم تقف هذه الافتراءات عند حدود العراق، فقد نشط دعاة حلف الأقليات بتشويه صورة المجتمعات العربية التي تمثل الأغلبية الإسلامية، بحجة الحفاظ على الامتيازات، تحت غطاء حقوق الأقلية على حساب الحقوق الوطنية، وهذا ما استخدم في تشويه ثورة الشعب السوري، الذي تقف الرياض إلى جانبه؛ لكن الرياض التي استقبلت أواخر السنة الماضية بطريرك لبنان وأنطاكية وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي، كشفت عن مدى تمسكها بخيار الحفاظ على التعددية العربية، وحمايتها، وضرورة الحفاظ على النموذج اللبناني في العيش المشترك. وقد استكمل الأمير محمد في القاهرة خطواته، حيث زار رأس الكنسية القبطية، وأكد سياسة الانفتاح السعودي على الجميع، وعلى الشراكة في مواجهة كل أشكال التطرف والعنف.
من القاهرة، من بوابة الأزهر، قدم محمد بن سلمان للعالم رؤيته لدور سعودي مختلف، يحمل صورة أخرى لعروبة إنسانية، بعيدة عن الشوفينية القومية على الطريقة البعثية، عروبة ترفض ربط التسنن بالقومية العربية والتشيع بالقومية الفارسية، عروبة متمسكة بالمساواة بين أبنائها، مؤكداً أن السعوديين الشيعة يساهمون في نهضتها، ويتولون مناصب قيادية. فالمملكة التي تحتضن على أراضيها كافة المذاهب الإسلامية السنية والشيعية، تملك القدرة على رعاية التعددية العربية، في زمن تتلاشى فيه المكونات، ويتم إفراغ المجتمعات العربية من حيوياته، خصوصاً في سوريا والعراق، حيث العنف الممنهج الذي قضى على التراث الإنساني الحضاري، والذي تسبب في خسارة العرب لمميزاتهم التاريخية التي حافظوا عليها وحموها لقرون. ولكن رغم قساوة المشهد وخطورته، ورغم كثرة التحديات التي تواجهها، رفعت الرياض مستوى التحدي بعد تبنيها لثلاثية التعددية والوسطية والاعتدال، في مواجهة العنف الذي يصنع الموت، من أجل صناعة التاريخ.