بقلم المختار الغزيوي
ولي في المحروسة مكان أحتفظ به منذ صغر اليفاعة الأولى
لذلك أذهب إليها منذ الجمعة محملا بكل أنواع العواطف الطيبة، متذكرا منها مامضى ومتمنيا لها قدوم الخير.
منذ متى قرأت نجيب محفوظ أسأل نفسي؟
أجد الجواب في سنة الباكالوريا وأنا أقترب من السادسة عشر بالكاد. التهمت الثلاثية أولا ثم غصت في عوالم الرجل كلها: الأعمال الكاملة. اقتنيتها بالتقسيط المريح من زميل في الحرفة وفدرالية الناشرين الآن هو خالد. باع لي عالما لن أنساه أبدا. خرجت منه مغايرا تماما للطريقة الأولى التي دخلته بها ثم اعتنقت منذ تلك اللحظة مصر
لها في النفس المكانة الموالية تماما بعد المغرب. لا شيء يعلو في العروق على انتماء الأصل. أما هاته فثابتة. لكن في النيل شبهة مياه تجري مثل الدماء في عروقي، داومت على سقيها بالنهل من ذلك المعين اللاينضب أبدا
يقولون مصر هبة النيل. أقول : العالم هبة مصر والمتبقيات الأخرى كلها نوافل…
ثم سمعت الموسيقى يوما ولا أدري كم تبقيت عند الأماكن الأولى طربا : سيد درويش أم عبد المطلب أم عبد الوهاب أقول أم الست كوكب الشرق أم كلثوم، أم الحليم عبد الحليم وهو الذي تغنى قبل الوقت بكثير بالماء والخضرة والوجه الحسن، وكان ذا الانتماء المغربي مثلنا أو يزيد بعض الشيء
ثم عنت لي سنوات الدراسة في الجامعة والرغبة في النضال والصراخ فاكتشفت الإمام واكتشفت معه الفاجومي ووقعت أسير الهوى المصري مجددا، وسخرية هؤلاء القوم من كل شيء بالفن والقدرة عليه دوما.
ثم اكتشفت هشام الجخ بعد السنوات بسنوات، وتذكرت صلاح جاهين والرباعيات، وتذكرت أنني كنت أمضي ساعات التنقل بين الرباط والبيضاء “أيام لا نافيط” على وقع التناوب في سماعة أذني بين قصايد الملحون وبين صوت الخال الأبنودي وهو يقرأ “حراجي” ورسائله.
ثم إنني حين “الكينغ” محمد منير أنسى كل شيء وأتذكر نوبيتي واسمرار البشرة وكل الفتيات اللائي أنا في عشقهن أنا كنت نابليون مثلما غنى الرجل وترنم.
ثم أدلف إلى الكرة معشوقتي وأتذكر الطاهر أبو زيد يوم هزم بادو الزاكي وأبكانا في ظلم كأس إفريقيا سنة 1986، قبل أن يعود التيمومي وبودربالة إلى هزم شوبير العظيم وتخليد العقدة المغربية لدى الأشقاء المصريين، والذهاب بعيدا مما أصبح الآن مجرد حكايات للكرة المغربية لا أقل ولا أكثر.
ثم أنا كنت هناك منذ عشرين سنة. زرت القاهرة كلها والإسكندرية ووقفت عند قبر ناصر وقرأت فاتحتي وصليت الركعتين الضروريتين في الحسين وزرت باب المغاربة وقلت لمن يريد الإنصات لي إن الكبير أمل دقل علمني حب الشعر وإنه بالنسبة لي أكبر من درويش وإن غضب الغاضبون، وأنه يوم سأل النيل هل “تجري دما؟” كان يرى بعيني زرقاء اليمامة مالم يره مجايلوه، وأن كل ماقاله لنا في النبوءات قد تحقق..
ويأتي بي الزمن المصري حد عادل إمام فأبتسم. أحمل الفم كله ضحكة واحدة وأقول :من ولد الزعيم قادر على ولادة أي شيء وكل شيء . أتذكر الشلبي وأتذكر العبقري أحمد زكي وأتذكر هذا الريبرتوار الغني من المشخصاتية والحكواتية الذي قدمته هاته البلد الولادة، فأقول “لاشيء يشبه مصر حقا”.
ثم كان ماكان من صروف الدهر وتطوراته. ووجدت المصر التي أعشقها أسيرة الإخواني يأخذ بها مالا من هنا ومن هناك ويريد إعادة نشر الدين فيها من جديد. صرخت منا المسام جميعا “ويحك سليل الصابئة، أو تريد هداية بلد المهتدين؟”
لم يسمع أحد لأحد وكانت الشدة ضرورية، وكان المرور منها امتحانا، ومر العديدون فعلا وبقيت مصر. بعد الشعار الأول الذي ارتفع في التحرير وقبل الشعار الثاني الذي ارتفع في نفس التحرير، وبعد الإخوان وبعد العسكر وبعد كل شيء بقيت مصر وستبقى
لذلك لا يمكن للذهاب لبلد مثل هذا البلد أن يكون عاديا. حتي القرآن قالها وتركها لنا “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”.
من أراد نزع الأمان عن المحروسة؟ هناك وخلال أسبوع الإقامة فيها وبين أهلها سنعود ببعض من جواب، وسنعود أساسا باليقين أن مصر عائدة بقوتها الشهيرة وبكل العناد.