الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى!

المغرب اليوم -

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى

بقلم - حازم صاغية

«الكيل بمكيالين» تعبير رائج في الكتابة السياسيّة العربيّة يُقصد به أنّ العرب يعامَلون معاملة أسوأ ممّا يعامَل به الآخرون. التعبير غالباً ما يُستخدم في ما خصّ القضيّة الفلسطينيّة وإسرائيل، فيما الطرف الذي يُلام على ذلك هو «الغرب». وهذا علماً بأنّ معظم اللائمين يعتبرون هذا الغرب عدوّاً، والعدوّ لا حاجة بنا للومه، فهو عدوّ، ولا لفضحه، فهو مفضوح.

هنا مَثَل معاكس عن طريقة أخرى في فهم «الكيل بمكيالين»:

حين توفّي ميلان كونديرا، قبل أيّام، أصدرت بيئة الممانعين مراسيم شماتة برحيل الأديب التشيكيّ. بالطبع كان الذين عبّروا عن حبّهم لأدبه، تبعاً لأسباب أدبيّة، أكبر كثيراً. وهذا مدعاة تفاؤل بتوسّع الاهتمام العربيّ بالأدب لذاته، وبنشأة استعدادات (لم نُعرف بها كثيراً من قبل) لفصل الأعمال الجماليّة عن السياسة.

لكنّ هَجّائي الممانعة، الذين لم يستوقفهم الأدب إلاّ لماماً وعَرَضاً، صبّوا غضبهم على كونديرا لنيله جائزة إسرائيليّة وقوله كلاماً طيّباً عن الدولة العبريّة.

وهذا ممّا يؤاخذ عليه الأديب الراحل فعلاً، كما يؤاخذ عليه فنّانون ومبدعون غربيّون كثيرون (وإن قلّ عددهم) لم يستوقفهم الاحتلال والاستيطان الإسرائيليّان، ولا الألم النازل بالفلسطينيّين من جرّائهما.

مع هذا فبناء الموقف من كونديرا على موقفه من إسرائيل (وإن مرّت عبارة أو عبارتان تقولان إنّه أديب لا بأس به) ليس ممّا يُحسد صاحبه عليه. فإسرائيل وفلسطين ومسائلهما مجرّد هامش في حياة الكاتب التشيكيّ وفي تجربته الثقافيّة. أمّا المبالغة في الاستناد إلى هذا الهامش فيؤدّي، مرّة أخرى، إلى تضييق الزاوية التي يُنظر منها إلى العالم، والتي على ضوئها يتمّ التفاعل معه ومع ما ينتجه، أكان في مجال الإبداع أو في أيّ مجال آخر. يصحّ هذا على حقول لا حصر لها من العلوم الطبيعيّة إلى العلوم الاجتماعيّة، ومن الرياضة إلى الموسيقى والغناء... إنّه وصفة باهرة للانعزال الذاتيّ.

فوق ذلك، تقدّم طريقة التعاطي المذكورة مثلاً آخر عن التسييس المَرضيّ الذي يفتك بمجتمعات لا تعرف السياسة فتعوّض بالتسييس الفائض عن فقدانها. هكذا يُختصر جهد إبداعيّ كبير بردّه إلى موقف سياسيّ صغير، وقد يُختصر الأخير إلى عبارة أو عبارتين.

لكنّ ما هو أهمّ يتّصل بفعاليّة هذا النقد السياسيّ لكونديرا، أو لأيّ كان. فالإدانة كانت لتجد اهتماماً أكبر بها، وتعاطفاً أكبر معها، لو صدرت عن متضامنين مع قضيّة كونديرا السياسيّة. في حالة كهذه، كانت المقارنة لتكون حادّة جدّاً بين تأييد عربيّ للتشيكوسلوفاك حين سحقتهم الدبّابات الروسيّة في 1968، وموقف كونديرا المتنكّر للحقّ الفلسطينيّ. لكنّنا نعلم أنّ التيّارات الثقافيّة العريضة في العالم العربيّ عبّرت عن مواقف معاكسة تماماً، وكانت أصواتها الأعلى تشكّك بمناهضة الأنظمة الشيوعيّة وبمناهضيها.

وبالانتقال إلى النُخب الثقافيّة تحديداً، فإنّ النخبة التشيكوسلوفاكيّة ربّما كانت من أكثر نُخب أوروبا تعرّضاً للسحق بعد الحرب العالميّة الثانية، لا يتفوّق عليها في هذه المعاناة إلاّ النخبة السوفياتيّة.

لقد سُرّح آلاف الكتّاب والفنّانين والسينمائيّين من أشغالهم وباتوا عاطلين عن العمل، وطُهّر أربعون ألف صحافيّ، وانضمّ أربعمئة ألف ممّن يندرجون في الإنتلجنسيا إلى العمّال اليدويّين، وخُنقت الجامعات والمسارح، وشقّت هجرة واسعة طريقها إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة. ومعروف أنّ تشيكوسلوفاكيا شهدت، ما بين قيام النظام الشيوعيّ في 1948 وسقوطه في 1989، هجرة 550 ألفاً شكّلوا 3.5 في المائة من السكّان حينذاك، وأقلّ قليلاً من نصف هؤلاء هاجروا ما بين 1968 و1989.

وكان قد صدر في صيف 1969 ما عُرف بـ»الإجراءات القانونيّة» الهادفة إلى «ضمان النظام العامّ وحمايته»، حيث نقرأ في الفقرة الرابعة منها ما يلي: «ذاك الذي يعرقل بنشاطه النظام الاشتراكيّ... يمكن فوراً تنحيته عن منصبه أو فصله من عمله... وفي ظروف كهذه يمكن أن يُمنع الطالب من إكمال دراسته (...) وفي حالة الأساتذة في معاهد التعليم العالي وسواه، يستطيع أيضاً الوزير المخوّل أن يفصلهم من وظائفهم أو يأمر بطردهم فوراً إذا أقدموا، وبما يخالف واجباتهم، على تعليم الشبيبة ما يعارض مبادئ المجتمع الاشتراكيّ وبناءه».

مع هذا، ففي العالم العربيّ لم يكن رأينا بالمثقّفين التشيكوسلوفاكيّين أفضل من رأينا بالشعب التشيكوسلوفاكيّ. ذاك أنّ عموم المنشقّين، في تشيكوسلوفاكيا وفي سائر بلدان الكتلة السوفياتيّة، صُوّروا خونةً وجواسيس وعملاء للإمبرياليّة. بهذا كان الموقف العربيّ الإجماليّ أسوأ حتّى من مواقف معظم الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا الغربيّة، ومن مواقف مثقّفيها، ممّن دانوا غزو 1968 ومعاملة النظام الشيوعيّ للمثقّفين المعارضين.

بكلام آخر: نحن لا بأس بأن نُعفى من التضامن مع المقهورين، لكنّ التشيك لا ينبغي أن يحظوا بمثل هذا الامتياز. أمّا أن لا نُعامَل بالمعايير الصارمة التي نُخضِع سوانا لها، فهذا ليس سوى كيل بمكيالين يسند نفسه إلى المظلوميّة واحتكار موقع الضحيّة والمظلوم، تماماً كما يفعل إسرائيليّون يجيزون لأنفسهم كلّ ارتكاب، وينتزعون من سواهم كلّ حقّ.

والحال أنّ طلب التميّز هذا هو في وجهه الآخر طلب للشفقة التي يُعامَل بها مُحتكر المظلوميّة أحياناً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى الكيل بمكيالين إنّما في صيغة أخرى



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 19:26 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الفنان عمرو دياب يتألّق عند سفح أهرامات الجيزة
المغرب اليوم - الفنان عمرو دياب يتألّق عند سفح أهرامات الجيزة

GMT 10:36 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

أسرع طريقة للتخلص من كل مشاكل شعرك بمكوّن واحد

GMT 17:44 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

المدرب دييغو سيميوني يحصد جائزة "غلوب سوكر ماستر كوتش"

GMT 03:05 2017 الثلاثاء ,04 تموز / يوليو

"سوق كوم" تندمج في "أمازون"

GMT 16:13 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

الإعلان عن موعد قرعة دور الـ16 في دوري أبطال أوروبا

GMT 11:48 2016 السبت ,22 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخصين وإصابة آخرين إثر حادث سير مروّع في الجديدة

GMT 21:38 2016 الإثنين ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة أقدم باندا عملاقة في العالم عن عمر 38 عامًا

GMT 13:04 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ليلى الطوسي تقدم الزي المغربي التقليدي بشكل عصري أنيق

GMT 12:58 2023 الأحد ,28 أيار / مايو

منتجع في المالديف يمتد عبر جزر مختلفة

GMT 10:21 2022 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

هزة ارضية قوية تضرب الناظور و نواحيها

GMT 17:17 2022 الأربعاء ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلاقُ نظام فضائي لاتصالات الجيلِ الخامسِ الجوالةُ
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib