القديس القاتل

القديس القاتل

المغرب اليوم -

القديس القاتل

أنعام كجة جي
بقلم : أنعام كجة جي

ذات فجر خريفي من عام 1957. في باحة سجن «لا سانتي»، تم تنفيذ حكم الإعدام في باريس بالسجين جاك فريش. شاب من أسرة ميسورة، وسيم مثل نجوم السينما، تورط في عملية سطو على محل للصرافة. كان قد رأى زورقاً شراعياً معروضاً للبيع بمليوني فرنك وأراد أن يحصل عليه. هاجم الصراف وهدده بمسدس وجمع النقود وهرب في اتجاه محطة المترو. لكن شرطياً سيئ الحظ طارده وانتهت المطاردة برصاصة في قلب الشرطي. قال المتهم في دفاعه إن نظارته الطبية سقطت في الأثناء ولم يعرف أين أطلق الرصاص.

بعد ثلاث سنوات من التحقيق والمحاكمة حلّت لحظة الإعدام. قطعوا رأسه بالمقصلة. المقصلة ذاتها التي هبطت على رقبة الملكة ماري أنطوانيت. مات المتهم وترك وراءه جدلاً قانونياً وأخلاقياً لم ينقطع حتى الساعة. فقبل يومين، رفض المجلس الدستوري طلباً لردّ الاعتبار لجاك فريش، والسبب انقضاء المهلة القانونية المقررة للتقدم بالطلب. لكن حكماء المجلس الدستوري أوصوا بمراجعة تلك المادة. تركوا كوّة للأمل.
بعد أكثر من ستين عاماً على الإعدام، ما زال ابنه، جيرار فريش، يسعى لتبييض اسم أبيه. طرق أبواب كل المحاكم: الابتداء، الاستئناف، النقض، وصولاً إلى المجلس الدستوري، أعلى سلطة قانونية في فرنسا. إنه يستند في دعواه إلى السيرة المثالية لوالده خلال سجنه. التزم المحكوم نزيل الزنزانة رقم 18 بطقوس روحية شبه صوفية. عاد إلى رحاب الدين وبدأ يكتب رسائل تقطر بدموع الندم. وفي آخر أيام محاكمته، قبل أن ينسحب القضاة للمداولة، تقدم المتهم باعتذاره العميق لعائلة القتيل وللمجتمع، لكن هيئة المحكمة لم تقتنع وقضت بالعقوبة القصوى. نطق القاضي بالحكم في السادس من أبريل (نيسان) 1957، اليوم الذي بلغ فيه فريش ربيعه السابع والعشرين.
بعد موته، صدرت ثلاثة مجلدات تجمع النصوص التي كتبها في عنبر الإعدام. أقبل عليها القراء وذاعت شهرته بين المؤمنات من ربات البيوت وبين البسطاء والفقراء وطيبي القلوب. تحوّل فريش بعد موته إلى رمز للتوبة. وبعد سنوات تقدم كاردينال باريس بطلب إلى الفاتيكان لتطويبه. لم يحدث أن باشرت الكنيسة الكاثوليكية إجراءات تحويل قاتل إلى قديس.
قبل المقصلة، أكمل فريش إجراءات زواجه الكنسي من المرأة التي كان ارتبط بها بعقد مدني. ونقرأ في الكتب التي صدرت عنه أنه أمضى ليلته الأخيرة يكتب رسائل إلى زوجته، وطفلته منها، وإلى محاميه، وإلى كاهن السجن، وإلى مسيو أوبريشت، «عشماوي» الذي قطع رأسه. أما جيرار، الولد الذي أمضى طفولته في دار لرعاية الأيتام ويسعى اليوم لرد الاعتبار لأبيه، فلم يكن يعرف أنه ابنه. اكتشف الأمر عام 1994 حين رأى صورة للمتهم وكان نسخة منه. قرأ سيرة حياة فريش ووجدها تتضمن إشارة إلى علاقة سابقة له مع امرأة حملت منه. وبين رسائل السجين واحدة موجهة إلى ذلك الولد، يعلن فيها اعترافه به. تقدم بدعوى لتثبيت النسب وجرى تحليل الحمض النووي وصدر قرار يسمح له بأن يحمل اسم فريش. لقب خفيف لفظاً يجرجر تركة ثقيلة.
في 1977 أنهت فرنسا عمليات الإعدام بالمقصلة. ذهبت تلك الآلة الرهيبة إلى المتحف. وفي 1981 ألغى الرئيس ميتران عقوبة الإعدام. لكن الماضي الذي يخرج من باب التاريخ يعود من شباك الحكايات. وها هي صحف الصباح تتحدث عن جاك فريش، السجين المثالي الذي كسب تعاطف الجمهور. يتكرر اللص الشريف أرسين لوبين جيلاً بعد جيل. ولا أحد يذكر الشرطي المغدور الذي مات أثناء الواجب. كان اسمه فيرن.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القديس القاتل القديس القاتل



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين

GMT 00:09 2023 الإثنين ,16 كانون الثاني / يناير

أسهم أوروبا ترتفع لأعلى مستوى في 9 أشهر

GMT 22:10 2022 الثلاثاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

 خفض كبير لتوقعات نمو الاقتصاد الصيني من قبل البنك الدولي

GMT 20:18 2022 الإثنين ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

يعنى إيه أبل ترغب فى الحد من وقت AirDrop على مستوى العالم

GMT 04:46 2022 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

"الفيفا تبرئ حمد الله في نزاعه مع النصر السعودي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib