أزمة الفكر الاستراتيجي العربي

أزمة الفكر الاستراتيجي العربي

المغرب اليوم -

أزمة الفكر الاستراتيجي العربي

مأمون فندي
بقلم : مأمون فندي

لدينا في العالم العربي مشكلة حقيقية مع التدخل الإيراني الخشن في البلدان العربية، ولدينا مشكلة وأزمة ومعركة حقيقية وقديمة مع مشروع إسرائيل الاستيطاني المتعجرف والمحميّ بالقوى الكبرى وملحقاتها، ولدينا أيضاً مشكلة مع تركيا بدرجة أقل. فهل لنا أو لدينا القدرة على خلق خيال استراتيجي جديد يسمح لنا بالتعامل مع هذه التهديدات الخارجية للأمن القومي العربي؟ وهل فكرة الأمن القومي العربي هي فكرة مفيدة استراتيجياً، أم أنه من الأفضل أن نتخيلها كحاصل جمع لأمن الدول المختلفة التي تجمعها مظلة الجامعة العربية؟
لا أدري هل هو خلل في تدريبي الأكاديمي في مجال الدراسات الاستراتيجية ودراسات الأمن الإقليمي أم أن حديثنا عن قضايا الأمن الإقليمي يسهم في ضبابية الأمر أكثر من جلائه؟
أظنُّ أن بداية التفكير في فهم التحديات الأمنية يبدأ من الدولة الوطنية بغضّ النظر عن مصالح الدول الأخرى التي تنضوي تحت مظلة الجامعة العربية. فمثلاً التدخل الإسرائيلي في الأراضي السورية واللبنانية يعني أن التهديد الإسرائيلي لهذه الدول وليس بالضرورة هو ذاته في مصر والأردن أو دول الخليج أو المغرب. إدراك التهديد وخطورته متباين بين هذه الدول، ولكن حديثنا العام يوحي كأنه متشابه، وتلك هي بداية الخلط التي تجعل أحاديثنا في تلك القضايا مفرغة من أي معنى استراتيجي يفهمه العقلاء من الدارسين أو المشتغلين في قضايا الأمن الإقليمي أو قضايا المصالح الاستراتيجية الوطنية وسبل تقديرها. هذا الخلط هو ما يؤدي إلى حالة التدني وتخفيف مادة الحديث كما يخفَّف الحليب بالماء، هذا التخفيف الذي يُوصلنا إلى حالة الهواة في التعامل مع القضايا الاستراتيجية، ويجعل الحديث فيها مفتوحاً على مصراعيه لكل من يجيد الكتابة وليس بالضرورة القراءة للحديث عن هذه القضايا. أنا ممن ينتمون إلى مدرسة نخبوية في الحديث عن القضايا الاستراتيجية التي يشترك فيها المشتغلون بتلك القضايا مباشرةً أو الدارسون لها بشكل احترافي.
ما جعلني أكتب في هذا الأمر هو التهديد الحوثي للسعودية ومؤخراً للإمارات، هو أمر جاد، وإذا ما جاء في التقييم الاستراتيجي لهذه الدول أن التهديد الإيراني يأخذ أولوية عن التهديد الإسرائيلي أو التركي فهذا شأن داخلي يجب أن يحظى بتقدير واحترام يليق بمستوى التهديد لهذه الدول واحترام درجة تقديرها للخطر، أما أن يتحدث شخص مغاربي مثلاً عن هذا التهديد وينظر إليه نظرة البعيد، ففي هذا إساءة فهم وإساءة تقدير والترويج لإساءة التقدير هذه يسهم بشكل كبير في تعكير صفو المياه وتلوث الحوارات وتلوث الأذهان.
للأسف ليست لدينا دوريات أكاديمية جادة متخصصة في قضايا الأمن الإقليمي، كما أنه ليست لدينا دوريات أو مجلات تحثّ على الرقيّ في الأحاديث العامة عن قضايا العلاقات الخارجية والأمور الاستراتيجية كما نرى في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، أو مجلة الشؤون الخارجية التي تصدر عن مؤسسة «تشاتام هاوس» في لندن، أو حتى الدوريات المنشورة من معهد الشؤون الدولية في اليابان أو يكين. كما أنه ليست لدينا حوارات استراتيجية ترتقي إلى مستوى مؤتمر «ميونيخ للأمن». غياب هذه المنارات الفكرية ومعها غياب المعايير هو الذي يجعل أحاديثنا عن الأمن القومي العربي أو المحلي ضبابياً ويلغي بعضُه بعضاً، لأن ما تنشره الصحف السيّارة أو يتردد على شاشات التلفزة لا يرقى إلى مستوى من الفهم يمكن ترجمته إلى أي لغة من اللغات الحية، وإذا تُرجم فلن يوحي إلا بأن حديثنا حول هذه القضايا هو حديث هواة أو مراهقين.
لا يعني هذا أن العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه مفرغ من العقول الاستراتيجية المدرَّبة والممارِسة، فهناك الكثير من العقول المتميزة في هذا الشأن، ولكنها عقول متفرقة كحبات مسبحة انفرط عقدها تبحث عن مكان تجتمع فيه وتتبادل فيه الأفكار، وتُخضع هذه الأفكار فيه لصرامة النقد والتقريظ الجاد.
القضايا الاستراتيجية التي تواجهنا اليوم تحتاج إلى تفكير جديد وخيال جديد يضفّر الشؤون الوطنية مع الهموم الوطنية والتنسيق بينها، وفوق كل هذا يجب أن تكون لدينا أدوات التحليل والمعرفة التي تساعدنا على الفهم. غياب هذه الأدوات هي أولى المشكلات التي تجعل الخلط بين الغثّ والسمين في القضايا الاستراتيجية أمراً مباحاً وأحياناً يتسيّد «الفالصو» فيه على الحديث الجاد، فيصبح صانع القرار ضحية للجهل المنتشر في فضاءاتنا العربية.
الكتابة في القضايا الاستراتيجية ليست موضوع إنشاء في درس اللعة العربية في مدارسنا تُرصُّ فيه العبارات رصّاً بعضها إلى جوار بعض بأسلوب منمّق ونميس. للكتابة في القضايا الاستراتيجية قواعد وأصول وتدريب أوّلي مطلوب.
لم يعد الإنسان العربي اليوم قادراً على تصحيح أخطاء مَن يتصدون لهذه القضايا في الصحافة والتلفزة حيث نسبة الجهل فيها أكبر بكثير من نسبة العلم. الحقيقة هي أننا في أزمة معرفية، وإذا أضفت إلى ما يُكتب في الصحف ما يُعرض في التلفزة، وما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، فنحن أمام كارثة وليس مجرد أزمة.
من أين يبدأ إصلاح هذا الخلل؟ هل من العودة إلى فكرة حراس البوابات المعرفية مرة أخرى وبصرامة أشد للتصدي لفيضان الجهل، أم أننا نستسلم لفكرة غياب المعايير؟ السؤال مفتوح لمن يهمه الأمر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أزمة الفكر الاستراتيجي العربي أزمة الفكر الاستراتيجي العربي



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib