سوف يكتب التاريخ فيما بعد، أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كانت حالة فريدة بين كل الذين شغلوا موقع المستشارية في بلادها!وهل هناك ما هو أدل على ذلك من أن مهاجرين كثيرين إلى ألمانيا راحوا يطلقون اسمها على أطفالهم في مرحلة ما بعد 2015؟! لقد فعلوا ذلك على سبيل الاحتفال بالمستشارة التي غادرت كرسي الحكم أمس، بعد أن سلمت مقاليد السلطة إلى أولاف شولتز زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
ولا بد أن بعضاً من الذين تابعوا عملية التسليم والتسلم قد راح يردد ما يقال في مثل هذه الحالة، عن أن سيدةً في بأس ميركل (الحزب الديمقراطي المسيحي) ستظلم القادم من بعدها بالتأكيد، وأن هذا القادم سيجد أنه طرف في مقارنة بينه وبينها لا دخل له فيها، ولا ذنب، ولا جريرة!
ومَن يدري؟! ربما يكشف خليفتها عن قدرات خاصة لم تظهر فيه بعد، تماماً كما وضعوا السادات في مقارنة مع عبد الناصر عند رحيله عام 1970، ولكن الأول ما لبث حتى فرض نفسه على العالم، وليس في المحروسة وحدها، وما لبث حتى قيل عن رحلته إلى إسرائيل إنها تشبه هبوط أول إنسان على سطح القمر، وما لبث حتى قيل عنه من فرط اتساع دائرة شعبيته في الولايات المتحدة أيام الرئيس جيمي كاتر، إنه لو رشح نفسه في سباق الرئاسة إلى البيت الأبيض فسيكسب السباق!
شيء من هذا يمكن أن يكون شولتز متمتعاً به، ولكن ذلك ستثبته تجارب الأيام وحدها وتقوله، ولا أحد قادراً على القطع به منذ الآن. فالتجربة ستقوله عنه إذا قام هو بتشكيل الحكومة الجديدة، وستقوله عن غيره إذا تشكلت الحكومة على يد سواه، فأظهر من القدرات ما يوضع في مقام المفاجآت.
وهذا نفسه كان قد حدث مع المستشارة المغادرة قبل 16 سنة، لأنها يوم تسلمت الحكم كانت قادمة من ألمانيا الشرقية، وكانت بالكاد معروفة في ألمانيا الغربية التي زال السور الشهير بينها وبين الشرقية في 1989، ولم يكن أحد من الألمان ولا من غير الألمان يستطيع في ذلك الوقت المبكر أن يتنبأ بما إذا كانت المستشارة الجديدة أيامها ستملأ مقعدها أم لا؟!
كانت تتحسس خطواتها، وكانت تريد بينها وبين نفسها أن تعيد ألمانيا إلى حيث يجب أن تكون على خريطة أوروبا، وكانت قدراتها كامنة لم تتكشف بعد، وكانت تعرف أن أمامها أسماء ألمانية كبيرة سبقتها في مكانها من وزن المستشار هيلموت شميت على سبيل المثال.
وليس سراً أن شميت عاصر السادات في الحكم، ثم عاش بعد اغتيال الرجل خلال العرض العسكري عام 1981، وقد عاش فيما بعد واقعة الاغتيال يردد أنه كلما راقب تفاقم أزمة دولية من بعيد، أحس بافتقاد عقلية السادات التي كانت قادرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات بحكمة، وصبر، ودهاء!
ولكنّ أداء المستشارة من أول يوم جلست فيه على مقعدها في دار المستشارية، إلى يوم أمس عندما سلمت أوراقها وغادرت، يشير إلى أنها تقف مع شميت في صف واحد.
وليس من المستبعد أن يقال عنها في مقبل الأيام ما عاش شميت يقوله عن السادات، وأن يتذكرها القادة والساسة في القارة الأوروبية كلما اعترضت طريقهم مشكلة من نوع ما كان يعترض سبيلهم في وجودها، وكانت هي تتعامل معها ببراعة، وكفاءة، ومهارة!
وإذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد بقي طوال فترة رئاسته الأولى التي ستنتهي ربيع السنة القادمة، يراهن على أنه سيخلفها في قيادة القارة، فلقد خلا له الطريق الآن، وصار في إمكانه أن يسود في قارته ويقود، ولكن ذلك ليس كلاماً وفقط بالطبع، لأنه محكوم بأداء سياسي على الأرض يحكم له عند المقارنة في المستقبل بينه وبينها أو يحكم عليه.
ولا يكفي أن تكون مجلة «تايم» الأميركية قد خرجت ذات يوم فوضعت صورته على غلافها، ثم كتبت تحت الصورة أن صاحبها هو الرجل القادم في أوروبا. لا يكفي هذا لأنه مجرد تنبؤ سياسي قد يصيب وقد يخيب بالدرجة نفسها، ولا مجال إلى اليوم للقول بأنه صائب أو خائب.
ولا تزال ميركل تشبه في لحظة المغادرة لاعب كرة قرر ترك الملاعب في عز مجده وتفوقه. إنها تشبه هذا اللاعب الذي يغادر وفي أُذنه تصفيق الجماهير له على لحظات إحراز الأهداف فيما مضى من أيام، ثم يغادر وهو يسمع صدى تصفيق الجماهير ذاتها وراءه، ويغادر وهو عارف بينه وبين نفسه بأنها ستصفق له أيضاً كلما أطل في أي مكان، وكلما صادفه معجب من المعجبين في أي ميدان!
لا تزال هكذا لأنها تغادر وفي فؤاد كل مهاجر إلى بلادها ذكرى رائعة عنها، بعد أن انحازت إلى كل إنسان كان قد قصد بلادها مهاجراً، وبعد أن راحت تتطلع إلى المهاجرين الذين قصدوا بلادها جميعاً، على طريقة الأديب التنزاني عبد الرزاق جورنا، صاحب نوبل في الأدب هذه السنة!
كانت تتعامل معهم على أنهم ثروة في النهاية، إذا ما جرى إدماجهم في سوق العمل، وإذا ما عرف صانع القرار الألماني كيف يوظّفهم في نطاق اقتصاد البلد كله، وكيف يجعل منهم قوة مضافة إلى جسد الاقتصاد، بدلاً من أن يعيشوا عبئاً عليه.
وكان جورنا قد عاش يكتب هذا المعنى وينادي به منذ أن غادر بلاده إلى بريطانيا 1968، ولكنها عاشت في الحكم تؤمن بهذا المعنى وتمارسه، وعاشت سنواتها الأخيرة تترجمه من دعوات مكتوبة في أدب صاحب نوبل، إلى عمل حقيقي يلمسه كل مهاجر اختار بلدها وجهة له ويراه بعينيه.
ورغم أنها تملك مادة خاماً لمذكرات سياسية يمكن أن توزع ملايين النسخ حول العالم، ورغم أن مذكراتها المفترضة يمكن أن تملأ عليها حياتها في مرحلة ما بعد المغادرة، إلا أنها لم تشأ أن تتاجر بهذه القضية، ولم تشأ أن تطلق بها بالونة اختبار لدى دور النشر، ولكنها تركت الأمر لوقته، وكانت ولا تزال كلما سألوها في الموضوع ابتسمت وتكلمت في موضوع آخر.
هي تريد أن تغادر في هدوء، رغم أنها عاشت أيام السلطة في صخب. وهي تريد أن تفكر في «لا شيء»، على حد تعبيرها، حين سألوها قبل فترة عمّا سوف تفعله في المستقبل، أما إذا كان عليها أن تفكر في «شيء» لاحقاً، فهذا موضوع محكوم بوقته وتوقيته!
والظاهر أن أوروبا ستقضي فترة بعدها، بينما لسان حالها هو لسان حال الكاتب الإيطالي بيراندللو في مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». ستعيش القارة الأوروبية تبحث عن قائد يملأ مقعد المستشارة، وستظل حائرة بين حلم شولتز بأن يكون على قدر ما يتوقع منه الألمان بعدها، فلا تبدو ثياب الحكم أوسع أو أكبر من مقاسه، وبين رغبة ماكرون في أن يحل الإليزيه محل دار المستشارية في التنسيق والقيادة، فلا تبدو «تايم» متنبئة بما لا محل له في واقع الحال.
واليوم سيدعو الرئيس الفرنسي إلى مؤتمر صحافي يحدد فيه أولويات بلاده، عندما تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي لستة أشهر بدءاً من أول السنة المقبلة، ولا بد أنها صدفة غريبة أن يجد نفسه مدعواً إلى رئاسة الاتحاد بعد أيام من مغادرة المستشارة موقعها، وكأن الأقدار تفرش أمامه الطريق إلى ما يريده، أو إلى ما رأته المجلة الأميركية فيه وهي تضع صورته على غلافها ثم تتنبأ بمستقبله.
فهل سيكون ماكرون هو بيراندللو أوروبا بالمعنى السياسي، لا المعنى الأدبي الوارد في مسرحية الكاتب الإيطالي؟! هذا ما سوف تقوله الممارسة والتجربة على مستوى القارة، لا الكلام في المؤتمر الصحافي أو في غيره من منصات الحديث، لأن هذه كانت الطريقة العملية التي توجت ميركل زعيمة لسنوات من عُمر الاتحاد، وهذه نفسها هي الطريقة يمكن أن تؤهل رئيس فرنسا أو غيره للجلوس في مكانها!
ولكن أياً كان المؤلف الذي ستعثر عليه دول الاتحاد الأوروبي وهي تفتش عن مؤلف يجمعها، فلن يكون المهاجرون ضيوفاً كراماً على مائدته كما عاشوا سنين على مائدة المستشارة، فلقد كانوا يجدون على مائدتها ما لا يجدونه في ست وعشرين عاصمة تتناثر على خريطة القارة العجوز!