نوع من الرياضة العقلية ليس أكثر

نوع من الرياضة العقلية ليس أكثر

المغرب اليوم -

نوع من الرياضة العقلية ليس أكثر

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

يقولون دائماً إن «لو» تفتح عمل الشيطان، وإننا لو تجنبنا الحديث بها فإن ذلك سيكون أفضل، ولكنَّ المشكلة أننا لا نستطيع ذلك، ونضبط أنفسنا كثيراً ونحن نستدعيها لنتكلم بها، ولنكتشف أنها ذات أثر ساحر وساخر في التاريخ.

ولا نزال نتحدث بها ونحن نتمنى لو أن شيئاً قد حدث مكان شيء آخر، أو لو أن شيئاً آخر قد حدث فتغيرت الأمور من بعده وأخذت مساراً مختلفاً تماماً.

مثلاً... كان الأمير كمال الدين حسين ابناً للسلطان حسين كامل، الذي حكم مصر من 1914 إلى 1917، وعندما جاء الدور على الأمير ليتولى الحكم مكان والده السلطان رفض وتنازل، ولم يكن هناك مفر من استدعاء الأمير فؤاد ليحكم، فحكم بصفته سلطاناً لفترة، ثم أكمل فترة الحكم ملكاً، فكان هو الوحيد من أسرة محمد علي باشا، الذي جمع بين صفة السلطان وصفة الملك، ولا يزال الذين يذكرونه يقولون عنه مرة إنه السلطان فؤاد، ويقولون عنه مرة ثانية إنه الملك فؤاد، والتسميتان صحيحتان في الحالتين ولا خطأ في أي منهما.

وكما كان هو الوحيد الذي جمع الصفتين، فإن حسين كامل كان السلطان الوحيد في الأسرة التي حكمت البلاد من 1805 إلى 1952. ولكن ليس هذا بالطبع موضوعنا، فلا الصفتان اللتان استأثر بهما فؤاد هما الموضوع، ولا الصفة التي انفرد بها حسين هي القضية.

القضية هي ماذا لو جاء كمال الدين بعد والده؟ الإجابة أنه لو جاء لكان تاريخ مصر قد تغير كاملاً، لأن فؤاد لم يكن سيأتي، ولا كان ابنه فاروق سوف يأتي بالتالي من بعده، ولا كانت ثورة 1952 التي قامت على فاروق الملك، سيكون لها وجود بناءً على هذا كله.

فهل جاءت الأقدار بفؤاد، وأخّرت كمال الدين حسين وجعلته يعتذر، لنجد أنفسنا في النهاية حيث نحن في هذه اللحظة وفي اللحظات المبنية عليها؟

هذا سؤال نظل نطرحه على سبيل الرياضة العقلية، لا على سبيل شيء آخر، لأن ما جرى قد جرى، ولأنه لا طريقة تجعلنا نعود لنصحح ما وقع وما كان بأثر رجعي، فلقد أبى الأمير كمال الدين أن يحكم وانتهى الأمر، وجاء في مكانه فؤاد وسار الأمر على ما سار عليه وبما جرت به المقادير.

وما جرى في المحروسة تكرر في فرنسا ولكن على نحو آخر، وكانت بدايته عندما انتقلت جزيرة كورسيكا من تبعيتها لإيطاليا إلى التبعية للأراضي الفرنسية، وقد جرى هذا قبل مولد نابليون بونابرت بسنة واحدة، وأصبح السؤال: ماذا لو بقي الإقليم في تبعيته القديمة، وماذا لو جاء نابليون إلى الدنيا إيطالي الجنسية، وعاش ومات إيطالياً، ولم يكن فرنسياً؟

لقد وُلد في الجزيرة بعد انتقالها إلى فرنسا، وصار فرنسياً بالتالي، وخاض انتصاراته وانتكاساته كلها بهذه الصفة، ولو بقيت الجزيرة وبقي هو معها لدى الإيطاليين لكان تاريخ العالم، لا تاريخ فرنسا وحدها قد تغير وتبدل، وما كنا سنعرف بونابرت من الأصل، لأن موقع بلاده هو الذي قاده إلى طموحه العسكري ونفوذه السياسي على مستوى العالم، ولأنه لو ظل إيطالياً ما كان هذا الطموح الجامح سيكون له موطئ قدم، وما كان هذا النفوذ السياسي سيكون له أثر.

انتقلت تبعية جزيرة من دولة إلى دولة فتغير حال العالم من بعدها، وتبدلت الأحوال في أوروبا وغير أوروبا، ومضى بونابرت الفرنسي، لا الإيطالي، يكتسح الأراضي ويضم المساحات ولا يرده شيء، إلى أن كانت معركة ووترلو في 1851 فكانت هي التي كتبت كلمة الختام. ولا يختلف الحال مع هنري كيسنجر، الذي ودَّع دنيانا قبل أيام عن مائة عام كاملة ومعها بضعة شهور، وبعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى ما يزيد على نصف القرن.

فهو واحد من أبناء إقليم بافاريا الألماني، وهو ألماني الجنسية في الأصل قبل أن يكتسب جنسيته الأميركية التي عاش ومات بها، وهو يهودي مهاجر مع أسرته ضمن الذين هاجروا من بلاد الألمان هرباً مما كانت النازية تمارسه معهم، وهو بهذا المعنى ألماني ابن ألماني، ولولا هجرته إلى بلاد العم سام، ما كان هذا الصخب كله سيرتبط به، وما كنا سنسمع عنه، لأن الآفاق التي انفتحت أمامه في الولايات المتحدة لم يكن من الوارد أن يصادفها في بلاده التي حمل جنسيتها في البداية.

وهكذا نجد أنفسنا أسرى في قبضة «لو» من جديد، لأنه لو لم يهاجر، ولو لم يفر من هتلر والذين معه، ما كان سيجد الطريق التي قادته إلى إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ثم إلى إدارة الرئيس جيرالد فورد من بعد نيكسون. ومن قبلهما لدى إدارة الرئيس لندون جونسون، وحتى لو كان قد بقي في ألمانيا ثم صار وزيراً للخارجية الألمانية، فليس بين وزراء الخارجية الألمان اسم ينافسه في الشهرة التي حققها، ولا في البريق الذي لازمه إلى مماته، ولا في الضجيج الذي صاحبه إلى أن رحل.

من أين كان سيأتي بحرب فيتنام ليلعب فيها دوراً، لو كان قد بقي في ألمانيا؟ ومن أين كانت ستأتيه مستشارية الأمن القومي في البيت الأبيض، ومن أين كانت ستأتيه علاقته مع السادات في مرحلة ما بعد نصر 1973، ومن أين كانت «الكيميا» التي ربطت بينهما ستأتي؟ ومن أين كانت هارفارد التي درس فيها ستكون حاضرة في حياته؟

تأبى «لو» هنا إلا أن تلعب دورها، ويأبى القدر إلا أن يسخر من الجميع، وهو يتدخل عند محطة بعينها، فتتبدل من بعدها الدنيا من حال إلى حال، ويصبح تاريخ مصر غير الذي كان سيكون، وكذلك تاريخ فرنسا، ومن بعدهما حياة هنري كيسنجر صاحب المائة عام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نوع من الرياضة العقلية ليس أكثر نوع من الرياضة العقلية ليس أكثر



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية
المغرب اليوم - أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib