هل من مكان للحديث عن الديمقراطيات في عالم تشتعل أركانه، وتكاد الحرب الكونية أن تمسك بأهدابه وفي غفلة من سكانه؟
يبدو الحديث وكأنه وهن جديد مضاف، لجسد البشرية المأزوم، لا سيما بعد أن تراجعت المعايير الديمقراطية حول العالم خلال عام 2023، نتيجة انتشار الحروب والممارسات الاستبدادية، وتراجع الثقة في الأحزاب السياسية التقليدية.
تبدو الكلمات السابقة، خلاصة دراسة أعدّها قسم البحث والتحليل في مجموعة «إيكونوميست»، وفيها إشارة واضحة لحالة «الارتداد الديمقراطي»، إن جاز التعبير، وهي الحالة عينها التي تعرف بـ«التدهور الديمقراطي»، وفيها تتحول الشعوب من الميل إلى الديمقراطية، إلى المضاد، أي الشعبوية، وربما الاستبداد تالياً.
يبدأ التحول من فقدان الحياة السياسية - إن وجدت - جودتها المعتادة؛ ما يدفع لجهة فقدان الدولة صفاتها الديمقراطية، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى أوضاع أوتوقراطية أو أنظمة سلطوية.
يخطر لنا على ضوء التقرير المتقدم أن نتساءل: «ما هي ملامح التدهور الديمقراطي التي يتناولها التقرير الأخير؟».
فالظاهر أن هناك عدداً واضحاً من المؤشرات، منها على سبيل المثال:
- تدهور أوضاع الانتخابات الحرة والنزيهة، وتراجع الحقوق الليبرالية، مثل حرية التعبير والصحافة والجمعيات الأهلية؛ ما يضعف المعارضة السياسية.
- ضعف سيادة القانون، كما الحال عندما يكون القضاء غير مستقل أو مهدد، وعندما تضعف حماية الخدمة المدنية أو تلغى.
يصنف التقرير أوضاع العالم لجهة الديمقراطية إلى أربعة أنواع من الأنظمة: ديمقراطية كاملة، ديمقراطية هجينة، ديمقراطية معيبة، وأنظمة استبدادية.
نكاد في سطور التقرير أن نشتمّ رائحة مقولة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل، ووصفه الأنظمة الديمقراطية، بأنها أفضل أسوأ الأنظمة السياسية، لا سيما أنها ترتكب الأخطاء، لكنها تتعلم أيضاً من العثرات، بل تتكيف وفقاً لذلك، وهي السمة التي تميزها عن كل الأنظمة السياسية الأخرى.
المثير الذي يظهره التقرير هذه المرة، هو أن الأنظمة الاستبدادية أظهرت أنها قادرة على التكيف والتعلم من أخطائها، بل ومن أخطاء الأسلاف والأقران.
يلفت التقرير إلى الأوضاع في منطقتين تُعدّان أحجار الزاوية في عالم الديمقراطيات الغربية: الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
يرى واضعو التقرير أن أوروبا الغربية هي المنطقة الوحيدة التي حسّنت موقفها الديمقراطي، وتخطت بالتالي أميركا الشمالية، تلك التي لم تتصدر التصنيف للمرة الأولى منذ إنشاء المؤشر عام 2006.
في حين يرى المراقب أن الولايات المتحدة الأميركية، ضمن البلدان التي يصفها التقرير بـ«الديمقراطيات المنقوصة»، وهي التي تتسم بانتخابات حرة ونزيهة وحريات مدنية أساسية، ولكن مع وجود نقاط ضعف كبيرة في جوانب الديمقراطية.
هذا التراجع عن الدمقرطة، يمثل أطول «انحسار ديمقراطي»، يسجل منذ عام 1975، الأمر الذي يدفع نحو سؤال مركزي: «هل يفقد العالم إيمانه بالديمقراطية، وإذا كان كذلك فما هو السبب الرئيسي؟».
ليكن الجواب من عند أوروبا أول الأمر، هناك حيث يرصد أنصار الليبرالية، ومنهم البروفيسور الأميركي جان فيرنر، أستاذ السياسة في جامعة برنستون العريقة. ففي كتابه الأخير «قواعد الديمقراطية»، بعض القيادات الأوروبية «المستبدة الطموحة»، والتي لديها خطة، ومنها على سبيل المثال فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، فبعد أن تمكن من ما يسميه «خداع الاتحاد الأوروبي»، وكسب الوقت، عزز ترسيخ حكمه الاستبدادي، وقد أصبح بوسع الآخرين أن يقلدوه بسهولة، كما فعل الحزب الحاكم في بولندا.
غير أن محاججة البروفيسور فيرنر قد رد عليها، لا سيما إذا كان أوربان يأتي عبر انتخابات حرة، نزيهة، شرعية، لم تجرِ من حولها ضغوط سلطوية، ولم تشوهها تدخلات عنف أو تلاعب بحرية الرأي؛ ما يعني أنه منتخب ديمقراطياً، وفق أساسيات العمل الديمقراطي.
السؤال الذي لم يجب عنه فيرنر ولا تقرير «الإيكونوميست» هو: لماذا فقد النموذج الديمقراطي بريقه في عيون تلك الشعوب؟
الجواب ربما يأخذنا إلى منطقة الصين، والتي لا تنفك الدوائر الغربية تراها التحدي القوي للديمقراطية عبر أرجاء البسيطة.
لكن شعوب الأرض ترى هذا النموذج قد نجح في تسجيل أعلى معدلات نمو اقتصادي، وباتت تنافس القوى الديمقراطية التقليدية، رغم عدم امتلاكها آليات الديمقراطية أو حتى الادعاء بامتلاكها.
من الصين إلى الولايات المتحدة الأميركية، والتساؤل مستمر: هل تسببت واشنطن في العقود الثلاثة الأخيرة، في إصابة قلب الديمقراطية؟
استجلاء جواب ناصع شفاف من عقل وذهن أحد المنظرين الأميركيين الكبار، ريتشارد هاس، عبر مؤلفه «العالم بإيجاز»، يقودنا إلى التأكيد بأن هناك علاقة حكماً بين أحوال أميركا وبين الإخفاقات التي تلحق بالديمقراطية.
يبدو الاستياء من أميركا أول الأمر عالمياً، سبباً رئيسياً، لا سيما بعد استغلالها الدولار لفرض العقوبات، والقلق من تراكم ديونها، في حين الأهم والأخطر أن حلفاء أميركا باتوا غير متأكدين بشكل متزايد مما إذا كان بإمكانهم الاعتماد عليها في أوقات الأزمات، كما أنهم أصبحوا قلقين من نهجها الأخلاقي.
والثابت أنه مع ضعف القوة النسبية لأميركا، تتراجع صورة الديمقراطية ومفاعيلها، ربما من جراء رغبة واشنطن المتزايدة في الميل إلى الانعزالية، وعدم القيام بدورها التقليدي في العالم.
يوماً تلو الآخر تخفق الآليات التي تحت رايتها ازدهرت الديمقراطية في النصف الثاني من القرن الماضي، فمنظمة التجارة الدولية غير قادرة على التعامل بشكل مناسب مع قضايا مثل الحواجز الجمركية والإعانات الحكومية والتلاعب بالعملة، وسرقة الملكية الفكرية. أما مجلس الأمن، قلب الأمم المتحدة النابض، فقد بان مؤخراً ما بين أوكرانيا وغزة أنه مصاب بازدواجية قاتلة تفقده مصداقيته وموثوقيته، بعد فشله في حماية شعوب ضعيفة ومستضفعة.
يجزم الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس ( 487 ق.م - 420 ق.م)، بأن زيوس كبير الآلهة في جبال الأوليمب، أرسل للبشر فضيلتين قامت عليهما الديمقراطية في أثينا القديمة: «الاحترام والعدالة».
اليوم تغيب العدالة ويتوارى الاحترام، فيميل الخلق إلى الارتكان للعودة إلى المجتمع البربري من غير مرور بدروب الحضارة... عن أي ديمقراطية يتحدثون؟