متى نتقاعد

متى نتقاعد؟

المغرب اليوم -

متى نتقاعد

عثمان ميرغني
بقلم :عثمان ميرغني

هل تحلم بالتقاعد مبكراً؟

هذا قد يكون حلمَ وتفكيرَ أغلبية الناس، لكن التغيرات التي تحدث من حولنا ستجعله تدريجياً أمراً صعبَ التنفيذ. السبب يكمن بالدرجة الأولى في التغيرات الديموغرافية المتسارعة التي تعني أن الناس يعيشون أطول، وبالتالي تتزايد أعداد المسنين وترتفع فاتورة المعاشات والرعاية الصحية على الحكومات.
فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن نسبة من هم فوق سن الستين حول العالم سترتفع من 12 في المائة في العام 2015 إلى 22 في المائة بحلول 2050. وبحلول عام 2030، سيكون 1 من كل 6 أشخاص في العالم يبلغ من العمر 60 عاماً أو أكثر، ليصل العدد إلى أزيد من ملياري نسمة بحلول 2050.
هذه التغيرات الديموغرافية تفرض تحديات على المجتمعات والحكومات، وتتطلب ميزانيات إضافية ومعالجات لكي تواكب أنظمة التقاعد، والرعاية الصحية والاجتماعية، الاحتياجات المتزايدة والمتغيرة. من هنا بدأت أغلبية الحكومات حول العالم، بما في ذلك في العالم العربي، تبحث رفع سن التقاعد بشكل تدريجي كحل لا بد منه عاجلاً أم آجلاً، وفي الأرجح عاجلاً.
في بريطانيا مثلاً ارتفع سن التقاعد ليبلغ حالياً 66 عاماً لكل من الرجال والنساء، وسيصل إلى 67 عاماً بحلول 2028. وقد أجبرت الحكومة على ذلك لأن النظام التقاعدي هو أكبر عنصر منفرد في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية في البلد. ومن المتوقع أن يصل إجمالي إنفاق استحقاقات المتقاعدين إلى 123 مليار جنيه إسترليني هذا العام، بما يعني أنه يمثل نحو 10 في المائة من إجمالي الإنفاق العام.
وفي فرنسا تواجه الحكومة مظاهرات واحتجاجات من النقابات بسبب قانون إصلاح نظام التقاعد الذي سيعرض للتصويت في الجمعية الوطنية قبل نهاية هذا الشهر، وبمقتضاه سترفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً بحلول العام 2030. وقد يستغرب كثيرون في أوروبا الاحتجاجات الفرنسية، لأن سن التقاعد في غالبية دولهم أعلى من ذلك منذ سنوات. في ألمانيا واليونان وإيطاليا والدنمارك وآيسلندا مثلاً السن هي 67 عاماً.
العالم العربي ليس استثناء، وستجد الحكومات أن عليها تعديل سن التقاعد بشكل تدريجي، لمواجهة الإنفاق المتزايد على نظام المعاشات والرعاية الصحية. فسن التقاعد حالياً، وهي 60 عاماً في أكثر الدول العربية، تعتبر من بين الأدنى عالمياً، وقد اضطرت بعض الدول بالفعل مثل المغرب والسودان إلى رفعها، بينما تدرس أخرى خطوات مماثلة لكي لا تحدث أزمة في صناديق التقاعد وتظل قادرة على الإيفاء بمتطلباتها تجاه المشتركين في المديين المتوسط والبعيد.
المشكلة أنه خلال السنوات الماضية حدثت زيادة في أعداد الناس الذين يتجهون للتقاعد في سن مبكرة مستفيدين من الشروط التي تتيحها لهم أنظمة التقاعد، وبشكل خاص في الدول الخليجية. هذا الأمر، مضافاً إليه ارتفاع معدل الأعمار، يعني زيادة الضغط على صناديق التقاعد، وله تبعات على الأجيال المقبلة التي ستتحمل أعباء مالية إضافية. أضف إلى ذلك أن الشخص عندما يتقاعد في سن مبكرة، فإنه يحرم الدولة من الاستفادة من حصيلة التجارب والخبرة المتراكمة من سنوات عمله، التي أنفقت عليها الدولة الكثير في التعليم والتدريب.
الحقيقة أنه مع حلم كثيرين بالتقاعد في سن مبكرة، فإن حقائق الحياة وضغوط المعيشة وأعباءها المتزايدة، باتت تفرض على الناس في كثير من الأحيان العمل سنوات أطول، وربما إلى ما بعد التقاعد. وقد أورد مؤشر التقاعد العالمي أن 60 في المائة من الناس حول العالم باتوا يتوقعون أنهم سيعملون بعد سن التقاعد لمواجهة متطلبات الحياة. وفي أميركا حيث يعيش واحد من كل 10 مسنين تحت خط الفقر، أوردت استطلاعات للرأي أن 57 في المائة من العمال والموظفين الأميركيين يخططون للعمل بعد سن التقاعد.
في العالم العربي وكثير من الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، هناك مشكلة أخرى، وهي وجود نسبة كبيرة من الناس لا يحصلون على أي معاش تقاعدي. فباستثناء الموظفين والعمال في القطاع العام، وإلى حد ما في القطاع الخاص، فإن أغلبية العمالة من مزارعين ورعاة وحرف مدنية وما شابه يبقون خارج مظلة التأمين الاجتماعي والنظام التقاعدي. وفي هذه الحالة، تعتمد الأسر إما على بقاء القادرين منها في سوق العمل حتى سن متأخرة في الشيخوخة، أو على نظام التكافل داخلها، بمعنى أن يتكفل الأبناء والبنات بمعيشة آبائهم وأمهاتهم عندما يكبرون.
اليوم هناك توجه في عدد من الدول للسماح للناس بالبقاء في العمل بعد سن التقاعد الافتراضية. بريطانيا مثلاً ضمنت قانون المعاشات مواد تمنح الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً فرصة الانخراط في سوق العمل والبقاء فيه بقدر ما يستطيعون، وتكون هناك جهات راغبة في توظيفهم.
هناك جانب آخر في هذه المعادلة لا يمكن إغفاله، وهو أن بقاء الناس في سوق العمل سنوات أطول، ولما بعد سن التقاعد، يعني حرمان آخرين من فرص الحصول على وظائف، في وقت يشكو فيه كثير من الدول، ومنها كثير من الدول العربية بالطبع، من البطالة بين الشباب. هذا يعني أن على الحكومات التوفيق بين رفع سن التقاعد، وتوفير مزيد من فرص العمل لاستيعاب الشباب.
هناك من يرى أن خفض المعاشات قد يخفف العبء على الحكومات، وهو رأي لا يتفق معه كثيرون ولا يرونه حلاً بسبب الزيادة المستمرة في تكلفة المعيشة. الحل يبقى في رفع سن التقاعد تدريجياً، وزيادة نسبة المساهمة التقاعدية التي يدفعها العاملون لكي ترتفع إيرادات صناديق التقاعد وتبقى قادرة على الإيفاء بمتطلباتها المتزايدة، وتتمكن من تحسين الرواتب التقاعدية بما يضمن للمساهمين الاستقرار المعيشي. صحيح أنه قد تكون هناك معارضة لمثل هذا الحل، مثلما يحدث في فرنسا الآن، لكنها معارضة غير منطقية وليست منصفة للأجيال المقبلة التي ستتحمل تبعات فاتورة معاشات المتقاعدين.
أمر أخير، وهو ألا نجعل الشيخوخة كأنها تعني أن الإنسان أصبح بلا فاعلية أو فائدة للمجتمع. فالسن وحدها ليست المعيار، وهناك كثيرون يبقون فاعلين وقادرين على العطاء بعد سن 65 و70 وكأنهم ما زالوا في الأربعينات أو الخمسينات. حتى بالنسبة للذين يخرجون إلى حياة التقاعد، فإنه يمكن تنظيم برامج ثقافية واجتماعية تملأ حياتهم وتبعدهم عن شبح الفراغ والعزلة. وللقادرين والراغبين يمكن إشراكهم في دورات تدريبية وحلقات نقاشية للشباب يسهم فيها المتقاعدون بحصيلة تجاربهم وأفكارهم التي قد تفيد في المعالجات والسياسات لبعض القضايا في مجالاتهم المتنوعة.
سن التقاعد تترتب عنها تحديات كثيرة للإنسان وللدولة، لا سيما في الزمن الراهن وفي المستقبل الذي تتزايد تعقيداته ومتطلباته لتوفير حياة مستقرة وآمنة، وهي تحديات تحتاج إلى حلول.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

متى نتقاعد متى نتقاعد



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib