زاهي حواس
من أهم ما يميز هيئة التراث ب المملكة العربية السعودية هو النشر العلمي والدراسات التي يقوم بها العلماء المتخصصون في شتى المجالات الأثرية بالمملكة. وقد أرسل لي الدكتور جاسر بن سليمان الحربش، الرئيس التنفيذي لهيئة التراث، مجموعة كبيرة من الكتب المهمة من إصدارات هيئة التراث؛ والتي مكنتني بالفعل من معرفة كثير عن التراث الأثري بالمملكة، وما تحقق في السنوات الأخيرة من تطوير شامل لخطة المملكة لحفظ هذا التراث للأجيال القادمة.
لم يقتصر دور هيئة التراث على إصدار الكتب والأبحاث فقط بل ونشر الرسائل الجامعية والمقالات العلمية. ولقد توقفت عند كتاب من تأليف الباحثة السعودية فاطمة بنت ضيف الله العبدلي بعنوان «الحياة الاقتصادية في نجران خلال القرن الأول الهجري - السابع ميلادي»، وهو أطروحة الباحثة لنيل درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي من جامعة الملك خالد. هذا البحث العلمي يؤكد لنا أننا على مشارف حقبة يحمل فيها الباحثون والعلماء السعوديون لواء البحث العلمي في تاريخ وتراث بلدهم بعد أن كان معظم من يكتب عن آثار شبه الجزيرة العربية من خارج المملكة. صحيح أن التاريخ والتراث هما إرث إنساني ليس حكراً على أحد بعينه؛ ولكن أن يكتب عن التراث والتاريخ في بلد أو مكان معين ابن من أبناء البلد هو أمر يختلف كثيراً عما يكتب عنه الأجنبي عن الأرض وعن الثقافة؛ الأول عنده فهم أعمق للأحداث والمعضلات التاريخية، بل وتفسير دقيق وثري للعادات والثقافات التي يصعب على الباحث الأجنبي فهمها أو وضعها في إطارها التاريخي الصحيح.
نعود إلى الباحثة فاطمة بنت ضيف الله وبحثها الذي تناولت فيه الحياة الدينية والسياسية والعسكرية والعمرانية بنجران من أجل أن تصل إلى النتائج المهمة التي توضح فيها الأهمية الاقتصادية لموقع نجران. وقد عثرت الباحثة على النصوص التاريخية التي ترجع إلى العصور التاريخية الأولى لنجران وذلك خلال العصر الإسلامي المبكر، واستشهدت بمصادر علمية مهمة من كتب التراجم والرحالة والتراث التاريخي والجغرافي لنجران. واستطاعت بجدارة، متبعة المنهج العلمي السليم، أن تحلل وتقارن هذه المصادر للوصول إلى نتائج علمية عن الحياة الاقتصادية والكشف عن العوامل التي أثرت فيها؛ سواء كانت عوامل طبيعية مثل الموقع الجغرافي والتضاريس والمناخ، أو عوامل أخرى دينية وسياسية واجتماعية، وقد خصصت فصلاً كاملاً عن الزراعة والرعي ودراسة طرق الري وكذلك تربية المواشي، وفصلاً آخر عن الحرف والصناعات الجلدية والنسيج والحدادة والصياغة، وفصلاً عن التجارة الداخلية والخارجية التى كانت تتم فى نجران.
وعن أثر الحياة الاقتصادية في حياة أهل نجران فقط، خصصت الباحثة فصلاً كاملاً ناقشت فيه عدة جوانب؛ منها الديني والسياسي والعسكري والاجتماعي والعمراني، ولذا يجب علينا أن نحيي الباحثة فاطمة بنت ضيف الله العبدلي، على هذا الجهد الطيب الذي سيتبعه بإذن الله أبحاث ومقالات علمية أخرى تضيف إلى معارفنا الكثير، ومن خلالها نستطيع أن نوثق الحضارة العربية التي كانت نواة للعلم والنور للعالم أجمع.