بقلم - مشعل السديري
في سنة 373هـ انتقل أولاد زيري بن مناد وهم: راوي، وجلالة، وماكسن، إلى الأندلس، فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسرّ بهم، وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم وسألهم عن سبب انتقالهم، فأخبروه وقالوا له: إنما اخترناك على غيرك، وأحببنا أن نكون معك نجاهد في سبيل الله، فاستحسن ذلك منهم، ووعدهم ووصلهم، فأقاموا أياماً ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو، فقال: انتظروا ما أردتم من الجند نعطيكم، فقالوا: ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا وصنهاجة وموالينا، فأعطاهم الخيل، والسلاح، والأموال، وبعث معهم دليلاً، فأتوا أرض جليقية، فدخلوها ليلاً وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة، وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره، فلما أصبحوا خرجت جماعة عن البلد فضربوا عليهم وأخذوهم، وقتلوهم جميعهم، فرجعوا وتسامع العدو، فركبوا في أثرهم، فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة، فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من ورائهم، وضربوا في ساقتهم، وكبّروا، فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا أن العدد كثير، فانهزموا، وتبعهم صنهاجة فقتلوا خلقاً كثيراً وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة، فعظم ذلك عند ابن أبي عامر ورأى من شجاعتهم ما لم يره.
لما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم، ورغبوا في الجهاد، وقالوا للمنصور بن أبي عامر: لقد نشطنا هؤلاء للغزو، فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار وخرج إلى الجهاد، وكان قد رأى في منامه تلك الليالي كأن رجلاً أعطاه الأسبراج فأخذه من يده وأكل منه، فعبره على بن أبي جمعة فقال له: اخرج إلى بلد اليون فإنك ستفتحها، فقال: من أين أخذت هذا؟ فقال: لأن الأسبراج يقال له في المشرق: الهليون، فملك الرؤيا قال لك: هاليون، فخرج إليها ونازلها، واستمد أهلها الفرنج، فأمدوهم بجيوش كثيرة واقتتلوا ليلاً ونهاراً فكثر القتل فيهم، وصبرت صنهاجة صبراً عظيماً، ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله فجال بين الصفوف، وطلب البِراز فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي، فحمل كل واحد منهما على صاحبه فطعنه الفرنجي، فمال عن الطعنة وضربه بالسيف على عاتقه، فأبان عاتقه فسقط الفرنجي إلى الأرض، وحمل المسلمون على النصارى، فانهزموا إلى بلادهم وقُتل منهم ما لا يُحصى، وملك المدينة وغنم ابن أبي عامر غنيمة لم ير مثلها، واجتمع من السبي ثلاثون ألفاً، وأمر بالقتلى، فنضد بعضها على بعض، وأمر مؤذناً فأذن فوق القتلى المغرب، ورجع سالماً هو وعساكره.