عذابات الهوية

عذابات الهوية!

المغرب اليوم -

عذابات الهوية

محمد الرميحي
بقلم - محمد الرميحي

في الأسبوع قبل الماضي، عقد منتدى التنمية الخليجي، وهو تجمع من بنات وأبناء الخليج المهمتين بدراسة قضايا التنمية، وهو أهلي وغير سياسي، عقد لقاؤه الثاني والأربعون في الرياض، وكان العنوان المطروح للنقاش هو (مجتمع المعرفة والثقافة والتنمية)، وقدمت فيه مجموعة من الأوراق البحثية المتميزة، متوافرة لمن يرغب في الشبكة العنكبوتية.
 

في العادة يدور نقاش بين الحضور في القضايا المطروحة، وسار النقاش في الهوية، هل يمكن الاحتفاظ بكل عناصر الهوية في وضع العالم اليوم المتأثر ببعضه بعضاً، وأيضاً الولوج إلى العصر الحديث في الوقت نفسه؟ لفت النظر أحد الزملاء الذي قال (إن اليابان وكذلك الصين) احتفظت بكل عناصر هويتها، وأيضاً دخلت العصر بكل ما يتطلب من حداثة، هذه الفكرة ليست خاصة بالزميل، وهو مثقف معروف، ولكنها تكاد تكون عامة بين شريحة واسعة من المثقفين والمتعلمين العرب! وتكاد تكون مسلمة لا جدال حولها! أن الهوية (ثابتة لا تتغير)! إلا أنها بعيدة عن الحقيقة، فكل من اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وكل الدول والمجتمعات التي حققت التنمية والحداثة، تخلت عن هامش وازن من ثقافتها التقليدية، وفي العموم تبنت ممارسات واسعة جاءت من الخارج فيها الكثير من التفصيلات، وهي بشكل عام فكرة (إقامة الدولة المدنية القانونية بمؤسساتها)، والقانون هنا لا يفرض من فوق، بشري أو إلهي، بل هو قانون أو قوانين صادرة عن الناس، ومحققة لمصالحهم، وبهذه الفكرة العميقة والشاملة دخلت تلك المجتمعات الحداثة.

وفي اليابان، تخلى المجتمع عن عبادة الإمبراطور، وعن السمع والطاعة لتلك المؤسسة القديمة التي اسمها الإمبراطورية اليابانية أو حتى الأسرة المنزهة، كما تخلت عن الطبقية في المجتمع الياباني التقليدي، وتبنت العمل طريقاً إلى التنمية والتصنيع الحديث، واحتفظت بلغتها، ولكن في الوقت نفسه طورتها، كما استفادت من قيم قديمة في المجتمع الياباني مثل الإخلاص في العمل، والولاء للشركة أو المصنع، وتخلت عن قيم كانت تؤمن بها، مثل تفوق الأمة اليابانية على الأمم الأخرى.

وفي الصين القديمة كانت تعتقد بأنها متقدمة، وأن أي فكرة قادمة من الخارج أفضل منها، حتى وقعت نسبة كبيرة من أراضيها للاستعمار الغربي، وبعد ذلك تبنت فكرة مهمة كتب عنها كل من درس الصين الحديثة، وهي أن أي فكرة جديدة نافعة تعارضها ممارسة قديمة، ويسقط الصينيون الممارسة القديمة إلى الفكرة الجديدة، وتكفي الإشارة إلى وضع المرأة الصينية، من (القدم الذهبية) التي توضع في قالب منذ الطفولة، كدليل على الجمال، إلى نظام المحظيات، وكل ذلك تغير جذرياً، فلم يعد جزءاً من الثقافة الصينية اليوم.

لقد أرسلت الصين عدداً كبيراً من أبنائها إلى الغرب مبكراً، كما اعتمدوا (الكفاءة) في تنظيمهم الإداري، فالترقي في الحزب الصيني الحاكم اليوم يخضع لعدد من الاختبارات في مسابقة مع زملائه ومنافسيه، من القرية إلى الناحية إلى المدينة إلى الإقليم ثم إلى الدولة، فلا يصل إلى هرم السلطة شخص أو أشخاص قفزوا إلى السلطة من مكان مجهول، بل أثبتوا قدراتهم في القيادة، ذاك هو نظام الكفاءة، الذي جعل من الصين اليوم أكبر دولة تحوز براءات اختراع في معظم العلوم الحديثة، فالعلم الطريق الصحيح للكفاءة، ولا يوجد في العالم إلا علم واحد، العلم الحديث، ولذلك فإن نتاج الصناعة الصينية يكتسح الأسواق.

وكل من اليابان والصين احتفظتا بلغتيهما، ولكن في الوقت نفسه واءمتهما مع العلم الحديث، كما عظمتا الممارسات التقليدية التي تساعد على التنمية والتطور، وتجاوزتا القيم والسلوكات التقليدية المعطلة للتنمية، ولذلك فإن المقارنة السريعة والسطحية وهي (الاحتفاظ بالتفاحة وأكلها في الوقت نفسه) والتي يفكر فيها بعضنا تحتاج إلى مراجعة، فكرة المساواة أمام القانون بين المواطنين رجال ونساء، والدولة المدنية العادلة ومركزية العلم، هي عناصر لا بديل لها للتقدم في الحضارة، والاحتفاظ بما يناقضها تحت عنوان (الحفاظ على الهوية) هو الامتناع عن ولوج العصر، فلا بد من الاعتراف بأن في ثقافتنا العربية عناصر معطلة للتنمية علينا البحث عنها ومحاولة تغييرها!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عذابات الهوية عذابات الهوية



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib