إرهاب ما بعد الربيع

إرهاب ما بعد الربيع

المغرب اليوم -

إرهاب ما بعد الربيع

محمد الأشهب


في حال جاز تصنيف الإرهاب الذي اكتوت بناره شعوب ودول إلى مرحلتي ماقبل الربيع العربي ومابعده، تصبح المقاربة مدخلاً لفهم خلفيات وأبعاد ما يحدث، خصوصاً أن الفترات الانتقالية التي مرت بها تجارب سياسية وأمنية انطبعت بأنواع من الاضطرابات والفوضى ومهادنة تنظيمات متطرفة، ما أفسح في المجال أمام «استيطان» الظاهرة الإرهابية التي بات لها عناوين ورموز لا تخطئها العين.
وإذا كانت الهجمات الإرهابية، متعددة الأشكال والأهداف والمنطلقات، طاولت الأوضاع عند سيطرة قادة وحكومات استبدادية، ودفعت إلى استخدام أساليب الاستئصال وتضييق الخناق على تنظيمات إسلامية بمبرر التحريض على العنف والإرهاب، فإن الطبعات الجديدة للأحداث الإرهابية المتوالية تشير إلى أن المشكلة أكبر من حصرها في دائرة محددة، أقله أن الأعمال الوحشية لم تفرق بين نظم استبدادية وأخرى على طريق التحولات الديموقراطية.
الأمثلة كثيرة، من تونس إلى مصر ومن ليبيا إلى اليمن، مع فارق في درجات السرعة ووئام الفرقاء. وفي حين تصور التونسيون أنهم قطعوا المسافات الطويلة على طريق بناء دولة المؤسسات وسلطة القانون، جاء الحادث الإرهابي الذي ضرب متحف «باردو» أقرب إلى الصدمة، أكان ذلك على مستوى استهداف التجربة السياسية الناشئة التي اعتمدت صراع الأفكار والبرامج والرؤى في الاستحقاقات الانتخابية، أو على صعيد رمزية الموروث الحضاري الذي ينبض بقيم التعايش والإخاء والتسامح.
بيد أن استخلاص حقيقة الهجمات وصدامات العنف التي زادت حدتها في فترة ما بعد الربيع العربي، يعكس التحديات الأكثر شراسة التي تواجهها دول المنظومة الربيعية. من جهة لأن فوضى انتشار السلاح وغياب الاستقرار وتراجع سلطة القانون تحولت إلى وعاء لاحتضان وتفريخ الممارسات الإرهابية، ومن جهة ثانية لأن تمدد التنظيمات المتطرفة، وفي مقدمها ما يعرف بتنظيم «الدولة الإسلامية» استغل فترة الانشغالات المحورية في الانتقال من الثورة إلى الدولة، وصارت له فروع وأذرع وكم هائل من حطب النار.
عندما استسلمت تجارب ما بعد انهيار نظم وقلاع ديكتاتورية لفكرة التأقلم والتعايش مع تيارات إسلامية متطرفة، بدافع أن تحالف المواقف للتخلص من الأنظمة البائدة حتّم نوعاً من المرونة في التعاطي والتنظيمات السلفية بأمل دمجها في العمل السياسي المشروع، لم تكن تستقرئ المخاطر الناجمة عن إغراق المشهد السياسي. وكان يصعب عليها تبني مقاربات الردع والاستئصال، كي لا توصف بأنها استنسخت الأساليب نفسها التي أدت إلى صنع الاستبداد، فيما أن انهيار بنيات الدولة السابقة مكّن الكثير من التنظيمات من فرصة العمر في حشد المناصرين وفرض طقوس غريبة اتسمت بالتطبيع مع أشكال التطرف.
زاد الأمر استفحالاً أن الأزمة السورية، كما سابقتها العراقية خلال فترة الاحتلال الأميركي، استقطبت المقاتلين المتطوعين تحت راية الجهاد، وشكّلت منطقة الشمال الأفريقي في تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا خزاناً لضخ المقاتلين، في ظل إقامة مزيد من معسكرات التأطير والتدريب والشحن الفكري بلباس ديني. وكان حتماً أن تنطبع مرحلة عودة المتطوعين، كما في سابقة «الأفغان العرب»، بحمولة إرهابية قاتلة تبحث عن ملاذات انتحارية.
لكن التساهل وغض الطرف الذي أملته أوضاع بلدان ما بعد الربيع العربي التي افتقدت في غالبيتها السيطرة على زمام الأمور، كان ثمنه فادحاً. تماماً كما أن الاكتفاء بلعب دور المتفرج حيال ما يتفاعل من أحداث في ليبيا لن يزيد الأزمة إلا استفحالاً. بدليل أنه ما كان لما يعرف بـ «الدولة الإسلامية» أن يجد موطئ قدم في المنطقة المغاربية، لولا اتساع البيئة الحاضنة، المتمثل في غياب رقابة الدولة واستشراء السلاح ونقل صراع التنظيمات المتطرفة إلى أبعد مجال ممكن. تبدو ليبيا سائرة بعينين مفتوحتين نحو المجهول، على غرار ما وقع في العراق وسورية.
تونس دفعت ثمن الجوار، وأبعد من ذلك ثمن الإصرار على الخروج من النفق المظلم، كونها اختارت المنهجية الديموقراطية سبيلاً لاستيعاب الجميع ممن لا يدين بالولاء للتنظيمات الإرهابية، وينبذ العنف واستباحة هدر الأرواح.
والظاهر أنه بالقدر الذي تتجه فيه مصر إلى التحكم في الميدان، تزيد الانفلاتات إلى جوارها في ليبيا وتونس، ما يعني أن حماية مكتسبات الثورات العربية يبدأ من إقرار مشروعات مجتمعية بديلة لا مكان فيها لغير الديموقراطيين ومناصري الحوار والانفتاح والتسامح.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إرهاب ما بعد الربيع إرهاب ما بعد الربيع



GMT 19:35 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

زحام إمبراطوريات

GMT 19:33 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 19:29 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ماذا وراء موقف واشنطن في حلب؟

GMT 19:26 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أزمة ليبيا باقية وتتمدد

GMT 19:25 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

السينما بين القطط والبشر!

GMT 19:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

خطيب العرابيين!

GMT 19:20 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

روشتة يكتبها طبيب

GMT 19:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أنجيلا ميركل؟!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib