حينما سأل وزير خارجية عربى كبير، جورج تينيت رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية وأحد أهم رؤساء هذا الجهاز فهماً لشئون منطقة الشرق الأوسط: «لماذا تسكتون على الدور القطرى فى المنطقة؟ لماذا تقبلون بشبكة العلاقات التى تقيمها الدوحة مع أعتى جماعات الإرهاب الدينى؟ لماذا توافقون على هذا الدور الذى يسبب الفوضى لكثير من حلفائكم؟».
ساعتها ابتسم «تينيت» وقهقه بصوت عالٍ مثلما كان يفعل أجداده ذوو الأصول اليونانية، وقال: «قطر تلعب داخل الدائرة المرسومة لها منذ أن تولى الأمير حمد الحكم، هى تفعل لنا ما لا نستطيع أن نفعله مباشرة».
وعاد الرجل وقال لمحدثه العربى: «قطر تقدم لنا خدمات جليلة لا أحد منكم يجرؤ فى المنطقة على فعلها لأنها تتجاوز كل الخطوط الحمراء».
كان هذا الحوار عام 2002 عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 بعام واحد وهذه تعتبر شهادة مهمة من أحد أطول رؤساء جهاز المخابرات الأمريكية إدارة للجهاز فى عهد رئيسين هما «كلينتون وبوش».
منذ أحداث سبتمبر والدور القطرى فى صعود وتشعب فى العالم العربى والشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا وأفريقيا حتى وصل أمريكا اللاتينية.
أى مؤتمر تريد واشنطن عقده، ولكن لا تريد أن يكون على أراضيها أو لا توجد لديها ميزانية لتمويله تقوم قطر بذلك.
أى مركز أبحاث أمريكى فى واشنطن بحاجة إلى دعم أو تمويل تنشئ الدوحة فرعاً له فى قطر.
أى رهينة أمريكية فى بلد أفريقى أو أى بقعة فى العالم مطلوب أن يتم دفع فدية مالية للإفراج عنها تقوم «لجنة الوساطة القطرية» بالدفع، لأن القانون الأمريكى يحرم ويجرم التفاوض أو الدفع للخاطفين.
أى قناة اتصال لا تستطيع واشنطن أن تقوم بها مباشرة بسبب محاذير داخلية، يتم تفويض قطر بها مثل وجود مكاتب للشيشان، وطالبان، وحماس فى الدوحة.
أى منظمة إرهاب تكفيرى تريد واشنطن فتح خطوط اتصال معها تقوم الدوحة بتحقيق مثل هذه الاتصالات، لذلك نجد خطوط اتصالات قطر مع: الحرس الثورى الإيرانى، مع طالبان، مع الحشد الشعبى العراقى، المعارضة الشيعية فى البحرين، حركة «بوكو حرام» فى نيجيريا، حركات الشباب فى الصومال ومالى، الكتيبة الليبية المقاتلة فى ليبيا، كل فروع جماعة الإخوان المسلمين فى العالم، «كتائب الأقصى»، وسرايا القدس فى سيناء، ذلك كله يضاف إلى العلاقة التاريخية مع تنظيم القاعدة فى أفغانستان، وجبهة النصرة فى سوريا.
وليس سراً أن كل التاريخ المرئى تليفزيونياً لتنظيم القاعدة وجبهة «النصرة» موجود بالأساس وبالدرجة الأولى من خلال شبكة قنوات «الجزيرة».
هذا كله يوضح أن قطر حينما تتعامل مع من يخالفها تتعامل من منطق «الاستقواء» بطبيعة العلاقة الاستراتيجية المميزة والدور المتفرد الذى لا غنى عنه لدى واشنطن ولندن وتل أبيب وأجهزتهم الأمنية.
من هنا تتعامل الدوحة من منظور أن لديها شبكة حماية ثلاثية الأبعاد الأولى على أراضيها من خلال قاعدة «العيديد» والثانية من خلال اتفاقاتها الإقليمية الأمنية مع تركيا وإيران وإسرائيل، وتلك شبكة يندر أن تجتمع تحت سقف نظام واحد، ثم الغطاء الأخير يأتى من خلال ذلك الدور الدولى الذى تلعبه بالتنسيق مع أجهزة الأمن والاستخبارات الدولية أو أحياناً بالنيابة عنها.
هذا كله أيضاً سوف يبرر لنا الإجابة عن السؤال الكبير: ماذا ستفعل قطر من الآن حتى يناير المقبل، أى تاريخ قمة دول التحالف الاستراتيجى مع الولايات المتحدة؟المؤكد أنها سوف تعتمد فى كل ما ستفعل على تلك الشبكة الثلاثية التى تعتقد «وهماً» أنها تحميها حتى من أقرب الناس وبديلة لأشقائها وحلفائها.
ماذا يحدث حتى يناير المقبل؟هل سيستمر الحال على حاله؟ أم سوف تزيد الدوحة من نبرة العداء والاستعداء؟من الواضح أن محور السياسة الخارجية القطرية فى ملف الصراع الدائر مع دول التحالف يعتمد على العناصر والأدوات التالية:1- تفعيل دور شركات العلاقات العامة والدعاية والتسويق السياسى فى أوروبا والولايات المتحدة ضد دول التحالف العربى وتشويه صورة سياستهم الداخلية وعلاقاتهم الدولية.
2- استنفار دور أكثر من 88 وسيلة إعلامية مكتوبة ومسموعة ومشاهدة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعى تابعة لدولة قطر بتمويل جزئى أو كلى لانتقاد الأوضاع الداخلية لدول التحالف العربى، وانتقاد زعامات تلك الدول بشكل قاسٍ وجارح.
3- التركيز على اختلاق موضوعات خلاف موضوعى أو شخصى بين المحمدين (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) لأن الدوحة تؤمن بأن جوهر المشكلة فى مجلس التعاون الخليجى هو تفاهم الرجلين، وأنه لابد، تحت أى ظرف وبأى ثمن، نسف هذه العلاقة وإفساد هذا التفاهم.
4- محاولة الدس بين القاهرة من ناحية والرياض وأبوظبى من ناحية أخرى، وتسويق الادعاء بأن هناك خلافاً عميقاً بين هذا المثلث لأن دعم الرياض وأبوظبى محدود ومتأخر.
5- التركيز على أن هناك خلافاً عميقاً فى الرؤى والتوجهات بين القاهرة من ناحية وأبوظبى والرياض من ناحية أخرى حول مواجهة الخطر الإيرانى فى اليمن وسوريا.
وفى هذا المجال استطاعت الدبلوماسية الفعالة بين العواصم الثلاث فى اجتماعات نيويورك الأخيرة إحداث حالة من «التفاهم والانسجام الشديدين» حول ملفى اليمن وسوريا بشكل ناجح.
6- التركيز على أن الرياض تتخبط فى سياستها، انظروا موقفها مع كندا ومع ألمانيا ومع واشنطن مؤخراً، وأيضاً استطاع وزير الخارجية السعودى عادل الجبير ترميم هذه العلاقة على أسس سليمة، على هامش اجتماعات نيويورك.
7- التركيز على فشل السياسات الداخلية للإصلاح فى السعودية: «انظروا ضريبة القيمة المضافة، تكاليف إعمار مشروع نيوم، تأخر طرح مشروع أرامكو، غلاء المعيشة.. إلخ»، وكل هذه الدعايات السوداء التى تتجاهل انخفاض عجز الموازنة السعودية 60 ملياراً عن العام الماضى.
8- التركيز على أن نظامى الحكم فى الرياض وأبوظبى لديهما تحديات داخلية، ومحاولة تشويه صورتهما لدى جمعيات حقوق الإنسان الدولية التى تمولها قطر، وبيع وتسويق فكرة أن حكم المحمدين فى الرياض وأبوظبى، والحكم فى مصر ضد حقوق الإنسان ومضاد للحريات، وكأن الدوحة وحدها هى واحة الديمقراطية وكعبة الحريات فى العالم الحر.
9- اللعب على وتر اختلاف مشروعى الرياض وأبوظبى حول مستقبل الدولة فى اليمن بمعنى دولة واحدة أم دولتين فى الشمال والجنوب.
10- تسخين الوضع الطائفى فى البحرين والتعاون مع الزعامات الدينية المذهبية، وتشجيع المشروع الإيرانى فى البحرين.
11- الاستمرار فى احتضان قيادات تيار الإسلام السياسى من الإخوان إلى القاعدة، ومن الشيشان إلى طالبان، وفي ليبيا من مجلس شورى بني غازي إلى القاعدة وجماعة الإخوان إلى تنظيم داعش الليبي.
12- الاستمرار فى الدعم السخى لمراكز البحث الأمريكية والأوروبية، وجمعيات المجتمع المدنى الدولية وتأليبها ضد القاهرة والرياض وأبوظبى، بحيث يتم تصويرها على «أنها أنظمة استبدادية» يجب عقابها ومقاطعتها، وكما قال أنور قرقاش وزير الدولة للشئون الخارجية الإماراتى، إن مكان قطر الطبيعى هو وسط أشقائها فى الخليج وليس مع تركيا وإيران.
13- التركيز المطلق والأكبر على اجتماع قمة يناير بين دول التحالف العربى مع الولايات المتحدة ومحاولة فعل أى شىء وبأى ثمن لتوسيع مشاركة بعض الدول وعلى رأسها «تركيا»!باختصار سوف نخلق لكم صداعاً مستمراً فى كل مكان وبأى ثمن حتى توافقوا على دورنا كما هو دون تنازل منا!
السؤال: هل هذا معقول؟
هل هذا مقبول؟
الأيام كاشفة.