لا حديث فلسطينياً عن الحوار والمصالحة هذه الأيام، ولا تكهنات تتطاير وتبشر بقرب إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة...لا مواعيد مضروبة لمزيد من الجلسات المفتوحة والمغلقة، والمؤتمرات الصحفية المشتركة ... والأهم من كل هذا وذاك: "لا اتهامات متبادلة" بعد موجة قصيرة منها... يبدو أن طرفي الانقسام، يستمرآن الوضع القائم، ولا يستعجلان الخروج منه.
"موسم" المصالحة الأخير، في هزيعه الأخير، إن لم يكن قد ولّى وانقضى، والمصالحة كما تعلمون، "مواسم"، أو كما يقال "هبّة ثلج وهبّة نار" ... وأخطر ما في المسألة أن لا أحد يذكّر أو يستعجل أو يراجع بنود الاتفاق الأخير، واستحقاقاته المقررة في الاجتماع الأول (والأخير على ما يبدو) للأمناء العامين ... لا "اللجنة الخاصة بدراسة سبل واستراتيجية استعادة الوحدة"، تشكلت أو باشرت أعمالها، ولا "القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية"، رأت النور، بعد بيانها الأول (والأخير كذلك)، الذي عمّق الانقسام بدل أن يجسّره، وفجّر خلافاً داخل فصائل منظمة التحرير، بين معترض على طريقة التشكيل والإعلان من جهة، ومن يعتقدون بأنهم أصحاب "الحق الحصري" في المقاومة والتفاوض من جهة ثانية.
ليس في الأمر ما يدعو للاستغراب، بل لعلنا لا نبالغ أن قلنا إن "الموت السريري" لقضية المصالحة وإنهاء الانقسام، لم تأخذ شكل المفاجأة أبداً، فما من أحدٍ صدّق أن "القوم" جادون فيما يقولون ويصرحون به، ولا أحد تنبأ بقرب تفكيك بنى الانقسام وهياكله ومصالحه المتضاربة ... إذ حتى أكثر المتفائلين، إفراطاً في التفاؤل، حافظوا على تحفظاتهم وحذرهم.
بالنسبة للسلطة، كان واضحاً منذ البدء، أن المصالحة لم تكن سوى "جملة اعتراضية" على صفقة القرن ومشاريع الضم ومسار الهرولة نحو التطبيع ... أما وقد لاحت في أفق الانتخابات الرئاسية الأمريكية فرص فوز بايدن والحزب الديمقراطي، قبل أن تتأكد لاحقاً، حتى شرعت في مشوار "التسويف" و"المماطلة" ... ما ينتظر السلطة مع بايدن، أقله من وجهة نظرها، أجدى بكثير، وأكثر أهمية، مما تنتظره من وحدة وطنية، مثقلة بالشروط والمطالب و"وجع الرأس".
اليوم، أعين السلطة متسمّرة على قرارات بايدن المنتظرة: فتح مكتب المنظمة في واشنطن، فتح القنصلية في القدس الشرقية، استئناف المساعدات المالية للسلطة و"الأنروا"، على أمل أن يتطور موقف أمريكي ضاغط لوقف الاستيطان أو تجميده، ومحفز على مفاوضات أكثر جدية، واستئناف المسار الذي انقطع بفوز دونالد ترامب في انتخابات 2016.
بالنسبة لحماس، فقد استشعرت لبرهة من الوقت، أن السلطة تأتيها زاحفة على ركبتيها، وقادتها قالوا ذلك بلغة دبلوماسية غير منمقة كثيراً على أية حال، لقد تحدثوا عن أسباب ثلاث تفاقم حاجة الرئيس محمود عباس لهم: (1) وصول مشروعه السياسي التفاوضي (حل الدولتين) إلى قعر الهاوية... (2) خيانة حلفائه العرب له، وتركه وحيدا "يقلع أشواكه بيديه"... (3) شعوره بـ"الإهانة الشخصية" من قبل شركائه الإسرائيليين والأميركيين، الذين طالما بنى رهاناته عليهم.
حماس تراهن على تعاظم أدوار حلفائها غير العرب، في الإقليم: إيران وتركيا، وهي إذ تبدومطمئنة إلى قبضتها المحكمة على قطاع غزة، فإنها تعوّل على "ترهل" فتح وتآكل شعبية الفصائل، لإدامة نفوذها في القطاع، بل ومدّه إلى الضفة الغربية والشتات، إن قُدّر لمشاريع إعادة التأهيل التي تشرف عليها أنقرة والدوحة، أن تصل إلى خواتيمها السارة... لا عجلة ولا استعجال، فما لحماس لها وحدها، وما لغيرها، يمكن أن يكون لها ولهم.
ثم إن الحركة منهمكة في جدل وتنافس داخليين، انتخابات وشيكة (جارية) لاختيار قيادة جديدة، وتقارير عن احتدام حدة الصراع الداخلي، ومعلومات عن "انقسام داخلي" حول الموقف من اتفاق إسطنبول، لتكون الخلاصة، أن حماس أيضاً، ليست في عجلة من أمرها، وأن المصالحة بالنسبة لها، هي استحقاق يمكن استمهاله، وإن طابع الإلحاح الذي أضفي على إنهاء الانقسام تحت ضغوط "الصفقة" و"الضم" و"التطبيع"، باتت اليوم أقل وطأة.
ما يغيب عن الجدل الفلسطيني الداخلي، حقيقة أن الأخطار الماحقة التي جاءت بها "صفقة القرن" ومشاريع الضم والتطبيع الزاحفة، ما زالت ماثلة للعيان ... فالتطبيع تتوالى حلقاته، وستعمل إدارة بايدن على تشجيعه وحفزه، حتى وإن كانت ستتردد في ممارسة "الابتزاز" الذي مارسته الإدارة التي سبقتها، وبايدن لا يعد بالتصدي للاستيطان وممارسة ضغوط على إسرائيل لوقفه، وهو تعهد باحترام قرار ترامب بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
الخطر الذي كان يتهدد الفلسطينيين وحقوقهم، دفعة واحدة و بـ"الجملة"، ما زال يتهددهم ويتهدد قضيتهم الوطنية، وإن بالتقسيط و"على دفعات" ... وإن لم يجر توظيف لحظة الانفراج مع إدارة بايدن من أجل إنجاز المصالحة وتصعيد المقاومة الشعبية واستخدام كافة أوراق القوة المتاحة، فإن من المحتمل أن نستيقظ بعد أربع سنوات على أمرين اثنين: إعادة انتاج نفس الجدل الذي دار مؤخراً على الساحة الفلسطينية حول إعادة تعريف المشروع الوطني ووظائف السلطة والمصالحة والمقاومة وغيرها، وهذا هو الأمر الأول، أما الثاني، فهو أن هذا الجدل سيستأنف بعد أن تكون إسرائيل قد اقتطعت المزيد من الأرض الفلسطينية وقضمت المزيد من حقوق الفلسطينيين في وطنهم وسيادتهم وعاصمتهم ومقدساتهم.
مؤسف أن الوحدة الوطنية، لا تصبح خياراً إلى في لحظة الشدة، وعلى نحو آني وموسمي، ومؤسف أكثر أن الحقائق الصلبة التي فرضتها إسرائيل على الأرض وفي السماء، لا تصمد طويلاً في الوعي الفلسطيني (الرسمي)، أحياناً عند أول هبة ريح محمّلة ببشائر العودة لخيار "المفاوضات حياة"، ودائماً تحت ضغط المصالح والحسابات الفصائلية الأكثر ضيقاً من "خرم الإبرة".