قضاة يعزفون ألحانا متناقضة
أخر الأخبار

قضاة يعزفون ألحانا متناقضة

المغرب اليوم -

قضاة يعزفون ألحانا متناقضة

توفيق بوعشرين

أقدمت السلطات الأمنية على اعتقال شابين في انزكان بتهمة الاشتباه في كونهما تحرشا بفتاتين واستنكرا لباسهما في انزكان.

هذا معناه أن وكيل الملك في انزكان انتبه إلى الخطأ الذي وقع فيه يوم تابع فتاتي التنورة، ونسي جريمة التحرش الأصلية التي ارتكبها مواطنون اعتدوا على كرامة فتاتين في السوق بدعوى أنهما تثيران الغرائز. السيد وكيل الملك، وتحت ضغط الصحافة والرأي العام الذي استنكر متابعة الفتاتين سابقا، تحرك صباح أمس الجمعة، وقرر اعتقال المشتبه في تحرشهما بشابتين كانتا قادمتين من أكادير فتعرضتا للرشق بالحجارة بسبب لباسهما. هذا تدارك محمود من قبل النيابة العامة التي لم تنتبه قبل 20 يوما في حادثة مماثلة إلى أن الأحق بالمتابعة هم من تحرشوا بفتاتي التنورة وأن لباس هاتين الأخيرتين ليس هو الجريمة مادام القانون في المغرب لا يفرض الحجاب أو النقاب أو المحافظة على أحد.
الخطأ الذي وقعت فيه النيابة العامة في انزكان لم تسقط فيه النيابة العامة في فاس، حيث أصدرت بيانا في اليوم نفسه حول الاعتداء الهمجي على مواطن في الشارع العام بدعوى أنه مثلي، وتابعت اثنين من المشتبه فيهما بتعذيب إنسان في الشارع العام وتهديد حياته، وأعقب ذلك بلاغ مشترك لوزيري العدل والداخلية حذر بلغة صارمة المواطنين من مغبة «أخذ الحق باليد»، وتهديد سلطة الدولة.

تكشف الواقعتان أعلاه عددا من الملاحظات والخلاصات المهمة والحساسة؛ أولاها أن البلاد تشهد بروز دور كبير ومؤثر وفاعل للرأي العام، وأن المواطنين، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال وقناة يوتيوب والمواقع الإخبارية والصحافة، أصبحوا يعبرون عن آرائهم، ويؤثرون في القرار، وينتقدون ويطالبون، ويسخرون من القرار السياسي والقضائي بشكل لم تعهده المملكة المحافظة التي نعيش فيها. أي حدث يقع في أية مدينة أو قرية أو حي أو زنقة إلا ويصبح حدثا وطنيا وأحيانا عالميا، كما وقع في فضيحة الكراطا وحادثة الكوبل وغيرهما. إذن، على الحكومة وعلى القضاء وعلى مؤسسات الدولة، صغيرها وكبيرها، أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، وأن تدخل الرأي العام في الاعتبار، وهو رأي عام غير محصور في العالم الافتراضي، بل له تأثير في العالم الواقعي.

الملاحظة الثانية هي أن السياسة الجنائية غير واضحة في المغرب، وكل وكيل ملك في المغرب يتصرف إزاء الحادثة نفسها بشكل مختلف، فوكيل الملك في انزكان تابع الفتاتين لأن لباسهما غير محتشم، وترك الذين تحرشوا بهما واعتدوا على كرامتهما وأمنهما وبعد 20 يوما قرر متابعة آخرين لأنهم تحرشوا بفتاتين متحررتين في لباسهما، ووكيل الملك في فاس تابع الذين اعتدوا على مثلي فاس، ولم يوجه أي تهمة إلى هذا الأخير الذي كان ضحية لا معتديا، ووكيل الملك في تمارة قبل أسابيع قرر متابعة مدرب التيكواندو في حالة اعتقال، وحمل مسؤولية غرق الأطفال الأحد عشر للمدرب، ونسي مسؤولية الدولة، في حين أن الحكومة التي تتبع لها وزارة العدل المشرفة على النيابة العامة كان لرئيسها عبد الإله بنكيران رأي آخر تماما… وهكذا يمكن عرض عشرات الحالات التي تختلف فيها دواعي المتابعة القضائية من قبل وكلاء الملك الذين أعطاهم القانون سلطة كبيرة في التقدير لأن النظام القضائي المغربي يشتغل بمنطق ملاءمة المتابعة عِوَض شرعية المتابعة. هذا المنطق يعطي مرونة في مطابقة النص مع الواقع، لكن هذا لا يعني وجود تضارب كبير في التقدير بين قضاة النيابة العامة إلى درجة تصبح الجريمة في فاس لست جريمة في انزكان، والمجرم في طنجة بريئا في العيون، وهكذا… لا بد من وضع ضوابط ولوائح ومعايير للسلطة التقديرية الموضوعة في يد النيابة العامة التي بمقتضاها تحرك المتابعة أو تحفظها، تعتقل أو تتابع في حالة سراح، توسع البحث أو تضيقه، تستدعي هذا أو لا تستدعي ذاك… لا يمكن للأمور الحساسة التي تثير الرأي العام أن تترك لتقدير موظف في محكمة، في حين أن قراره قد تكون له تداعيات كبيرة وخطيرة على البلد كله، وعلى استقراره وعلى سمعته وعلى مصالحه.

الملاحظة الثالثة التي تستدعيها حوادث انزكان وفاس وتمارة ومراكش وغيرها، هي الثقافة القانونية والحقوقية للقاضي الجالس في النيابة العامة، والتقاليد الموروثة في هذه المؤسسة المعطوبة، حيث الميل إلى التشدد في تفسير النصوص القانونية، وعدم التشبع بالثقافة الحقوقية، وعدم مواكبة ما يجري ويدور في البلاد والعالم، وأخذ الناس بمراكزهم الاجتماعية وبغناهم أو فقرهم. خذوا، مثلا، قرار المتابعة في حالة اعتقال، جل وكلاء الملك والوكلاء العامين يتخذون هذا القرار الحساس بسهولة كبيرة، حتى أصبح لدينا نصف المعتقلين في السجون، أي حوالي 50 ألف مواطن، معتقلون احتياطيا، أي قبل صدور الأحكام، مع أن جلهم له ضمانات الحضور وقادر على دفع الكفالة و…

هناك نقاش اليوم في البرلمان حول نصوص إصلاح العدالة، وحول النيابة العامة ولمن تتبع، ووجوب مساءلة المشرفين عليها قانونيا وسياسيا مادمت قراراتها فيها الجانب القانوني، وفيها الجانب المتعلق بالسياسة الجنائية، لهذا من المفروض أن يرتقي ممثلو الأمة إلى مستوى وضع نصوص قانونية تساعد على حل هذه الإشكاليات المعقدة التي لها صلة بالعدالة والديمقراطية والتوازن والاستقرار والباقي اتركوه للفيسبوك واليوتوب والتظاهرات في الشارع العام… الزمن تغير، وثقافة المغاربة تتغير، والعالم يتغير، والذي لا يحسن التعامل مع موجة التغييرات العاتية تغرقه أو تطوح به بعيدا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قضاة يعزفون ألحانا متناقضة قضاة يعزفون ألحانا متناقضة



GMT 19:35 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

زحام إمبراطوريات

GMT 19:33 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 19:29 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ماذا وراء موقف واشنطن في حلب؟

GMT 19:26 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أزمة ليبيا باقية وتتمدد

GMT 19:25 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

السينما بين القطط والبشر!

GMT 19:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

خطيب العرابيين!

GMT 19:20 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

روشتة يكتبها طبيب

GMT 19:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أنجيلا ميركل؟!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:47 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تيك توك يتخلص من أكثر من 200 مليون فيديو مخالف خلال 3 أشهر

GMT 02:26 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

احتياطيات ورأسمال بنوك الإمارات تتجاوز 136 مليار دولار

GMT 03:01 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الدفاع الجديدي يهزم حسنية أكادير

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ميناء طنجة المتوسط يحصل عل قرض من مؤسسة التمويل الدولية “IFC”

GMT 22:42 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب الطرق تواصل حصد أرواح المغاربة

GMT 21:19 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib