داء فقدان الشجاعة السياسية

داء فقدان الشجاعة السياسية

المغرب اليوم -

داء فقدان الشجاعة السياسية

بقلم - توفيق بو عشرين

في حياتنا السياسية الفقيرة، وديمقراطيتنا الناشئة، يبدو أن معظم السياسيين مستعدون لبذل كل شيء من أجل الحفاظ على كرسي قريب من السلطة، أو على مقعد قريب من الشعب، حتى وإن لم يؤمنوا بهذا الشعب. أغلبية النخب تبحث عن موقع لا مساءلة فيه ولا محاسبة، بل دوام وامتياز وحظوة ونعيم… أما المشاريع والأفكار والمواقف والشجاعة والأخلاقيات العميقة للسياسة وللمرفق العام والمصلحة الوطنية… فهي أمور أو انشغالات لا تحتل مكان الصدارة في جدول أعمال الوزراء وكبار مسؤولي الدولة، وزعماء الأحزاب السياسية، ورجال الدين والفكر والثقافة والإعلام، الذين يمشون بجانب الحائط، ويدربون ألسنتهم وعقولهم وقلوبهم ولغتهم وقراراتهم على قول لا.. هذه هي القاعدة، أما الاستثناء فلا حكم له، كما يقول الفقهاء.
سأل مدير شركة أربعة من موظفيه سؤالا لاختبار معدنهم، فقال: «واحد زائد واحد تساوي ثلاثة. هل هذا صحيح؟»، فقال الأول: «نعم هذا صحيح» (كذاب)، وقال الثاني: «نعم صحيح إذا أضفنا واحدا آخر إلى المعادلة» (مجامل)، وقال الثالث: «إذا أراد سعادة المدير أن تكون ثلاثة فهي ثلاثة» (منافق)، أما الرابع فقال: «إن العملية خاطئة، والصحيح هو اثنان» (صادق)… سرح مدير الشركة الأخير لأن الصدق عملة غير قابلة للصرف في الشركة، واحتفظ بالثلاثة الآخرين لأنهم، ليس فقط ضعاف نفوس، لكنهم أيضا ممن تسهل قيادتهم واستعمالهم… هذا ما يجري تقريبا في عالم السياسة والاقتصاد والإدارة والإعلام والعلاقات العامة في بلادنا، وهذا الخداع الجماعي يلبس، في الغالب، «جلبابا مغربيا واسعا» اسمه تارة الواقعية، وتارة الاضطرار، وأخرى عدم الرمي بالنفس إلى التهلكة، ورابعة: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، بتفسير علماء السلطان طبعا، وخامسة: «الله ينصر من أصبح»، وسادسة أن السياسي «الشاطر» هو الذي يتقن فن الصمت بعدة لغات، كما كان السادات يقول.
في هذه الأجواء تصبح الصناعة الوطنية الأولى هي لغة الخشب، ويصير الشعار الرسمي هو «دعه يعمل دعه يحكم»، فلن يتغير شيء في هذه البلاد، والحل واحد من نهجين؛ إما مسايرة القطيع والدخول إلى الصف، أو الدخول إلى «سوق الرأس» والاهتمام بالمشروع الخاص عوض العام، الوظيفة، الدخل، تربية الأبناء وتعليمهم، أو رعاية قط البيت أو كلبه، والجلوس على الأريكة، وقراءة كتاب الأمثال والحكم التي تقول: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، و«ابتعد عن الشر وغنِّ له»، و«الشهر الذي لا تقبض أجره لماذا تعد أيامه»، و«الحياة قصيرة فلماذا تضيعها في المتاعب أو النضال أو رفع الصوت»…
لفهم سلوك النخبة المغربية لا بد من الرجوع إلى التاريخ السياسي والاجتماعي القريب، ففيه بعض التفسيرات السوسيولوجية لهذا «النفاق»، ولهذا الخوف الكبير من السلطة. تخبرنا جل كتب التاريخ، حتى المزور منها، أن المغاربة عانوا ثلاث آفات خلال القرون الماضية؛ أولاها جور السلطان وحاشيته التي لا حدود لسلطاتها ولا راد لغلبتها. ثانيا، الخوف من الفتنة والقلاقل والحروب الأهلية والتنازع على كرسي الحكم. ثالثا، المجاعة والفقر وقلة ذات اليد… قبل أن يدخل الاستعمار إلى المغرب كان القياد، الذين يحكمون مساحات شاسعة من الأراضي التي يقتطعها السلطان لهم، يفعلون ما يشاؤون في البلاد والعباد، لكن، عندما يحضر موعد مثولهم أمام حضرة السلطان في فاس، لتجديد البيعة أو الطاعة ولدفع «الجزية»، كان القايد يودع أهله، ويوصي وصية من لا يعرف هل سيرجع أم لا إلى قبيلته، فتتحول داره إلى ما يشبه سرادق عزاء قبل الأوان، فإذا عاد استبشر أهله خيرا، وإذا لم يرجع فإنا لله وإنا إليه راجعون… قبل قرن أو أقل، لم يكن أغلب المغاربة يأكلون حتى يشبعون، ولم يكن الكثيرون ينتعلون حذاء أو بلغة أو أي شيء، وكان القمل والبرغوث ملازمين للأغلبية الساحقة من المغاربة، وكان التسول في البوادي والمدن عادة لا يخجل منها أحد، أما الإحساس بالأمن والأمان فإنه كان «برستيجا» لا يحظى به إلا القليلون، ولأوقات قصيرة. كان قطاع الطرق يجعلون من السفر بين المدن والأقاليم مغامرة حقيقية، وكان المخزن في حرب دائمة على مناطق السيبة، وعندما بدأت الدول الأوروبية تطل من مدن المغرب النافع، كان جل الأعيان والتجار المحليين يتسابقون لنيل حمايتهم للإفلات من عقاب المخزن، أو لنيل الحظوة لدى الأجنبي… كل هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة أسهمت في صناعة الشخصية المغربية، وثقافتها السياسية، وسلوكها تجاه الدولة والمجتمع إلى اليوم، فصار الخوف من السلطان طريقا للتقرب والتزلف للسلطة دون قيد أو شرط، وصار الخوف من الفقر سببا في السعي بكل الطرق إلى المال، ولو على حساب الكرامة والعفة، وصار الخوف من الفتن والقلاقل مدعاة إلى الرضا بالواقع والخوف من التغيير… تغيرت الأحوال، لكن تحت الجلد مازال هناك الطابع الأصيل الذي يدل على شخصية مليئة بالتناقضات، في بيئة لم تتغير كثيرا رغم كل المظاهر الخادعة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

داء فقدان الشجاعة السياسية داء فقدان الشجاعة السياسية



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

نجوى كرم تُعلن زواجها أثناء تألقها بفستان أبيض طويل على المسرح

بوخارست - المغرب اليوم

GMT 13:35 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:23 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

مصنع تيسلا ينتج كميات كبيرة من خلايا بطارية ليثيوم أيون

GMT 11:28 2015 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

قطيع غنم يفاجئ طلاب ثانوية في تاوريرت بدخوله إلى مدرستهم

GMT 00:20 2016 الخميس ,06 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة حلى الفقع

GMT 15:53 2014 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

القرفة تساعد فى وقف تقدم مرض الشلل الرعاش

GMT 04:44 2017 الثلاثاء ,06 حزيران / يونيو

"المكرمية" فن كامل يتصدر أحدث صيحات ديكور صيف 2017

GMT 13:37 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

من أي معدن سُكب هذا الدحدوح!
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib