أن تعيد المحكمة العسكرية في لبنان النظر في الحكم المخفف الذي صدر على الوزير السابق ميشال سماحة، ليس سوى خطوة أولى متواضعة على طريق طويل يستهدف استعادة الدولة اللبنانية. فإحقاق العدل وانتصار القانون هما في أساس نجاح الدول، بل في أساس مفهوم الدولة. لا يزال لبنان بعيدا جدا عن هذا المفهوم المتعارف عليه عالميا، ومنذ زمن طويل، في ظلّ رفض “حزب الله” تسليم “قديسيه” المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
المهمّ أن خطوة متواضعة لكنّها ذات مغزى سياسي، تحقّقت بعيدا عن المزايدات. تحقّقت الخطوة بطريقة منهجية فرضت أخيرا على القضاء العسكري إعادة النظر بالحكم. حصل ذلك في الإطار القانوني الذي يؤكد أن هناك بقايا دولة في لبنان وأنّ هناك مؤسسات لا يزال بعضها يعمل وإن بحياء وخجل.
عاد ميشال سماحة إلى السجن وهو “مكانه الطبيعي” على حد تعبير الرئيس سعد الحريري، زعيم “تيار المستقبل” الذي لديه أكبر كتلة في مجلس النوّاب اللبناني، وهي كتلة تضمّ نوابا من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. هذه الكتلة، لعبت مع وزراء “تيار المستقبل”، في مقدّمتهم وزير الداخلية نهاد المشنوق، وقواعده الشعبية دورا في الضغط من أجل الوصول إلى إعادة النظر في الحكم عبر محكمة التمييز العسكرية وذلك كي لا تبقى الجريمة المرتكبة من دون عقاب.
كان مطلوبا إعادة ميشال سماحة إلى السجن، أقله لسبب واحد، هو أن الجريمة التي ارتكبها تستأهل في أقلّ تقدير العقوبة القصوى المنصوص عليها في القوانين المعمول بها في لبنان. هل من جريمة أكبر من جريمة تهريب متفجرات مصدرها جهاز أمني سوري على رأسه اللواء علي المملوك لتنفيذ مجازر في لبنان بغية إثارة الفتن الطائفية والمذهبية، مع استهداف خاص لرجال دين من السنّة ومن المسيحيين؟
كان التساهل مع ميشال سماحة جريمة أكبر من الجريمة التي ارتكبها الوزير السابق، وذلك على الرغم من أن الرجل يعاني، بكلّ تأكيد، من مرض نفسي جعل منه يستسهل إهراق دماء الآخرين. هذا المرض النفسي لا يبدو حديثا لدى ميشال سماحة الذي لجأ منذ شبابه إلى استخدام العنف، حتّى عندما كان طالبا “كتائبيا” في قسم إدارة الأعمال في الجامعة اليسوعية.
بفضل ضغوط مارسها اللبنانيون الشرفاء، استعاد القضاء العسكري بعضا من هيبته ومن هيبة المؤسسة العسكرية. هذه المؤسسة التي يُفترض أن تكون في خدمة اللبنانيين، جميع اللبنانيين، وليس في خدمة هذه الميليشيا المذهبية أو تلك.
ما حصل كان انتصارا للبنان أوّلا، وللمؤسسة العسكرية وللقضاء العسكري ثانيا وأخيرا. لا شكّ أن “تيّار المستقبل” حظي بدعم كبير من قوى عدّة من أجل الوصول إلى النتيجة المتوخاة. لكنّ قوى معيّنة كانت في الماضي تنادي بالسيادة ودولة القانون، على رأسها جماعة الجنرال ميشال عون، اختارت الصمت حيال كل ما له علاقة بجريمة ميشال سماحة وما أحاط بها.
في المقابل اتخّذ حزبا “الكتائب اللبنانية” و”القوات اللبنانية” موقفا شجاعا من القضية وسط دعوات إلى إعادة النظر في صلاحيات القضاء العسكري الذي استخدم بشكل سيء منذ بدء عهد الوصاية السورية على لبنان في خريف العام 1990. هذا العهد الذي مهّد له ميشال عون عندما أدخل الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة… بعدما رفض تسليم المقرّ الرئاسي إلى الرئيس المنتخب الشهيد رينيه معوّض مسهّلا على النظام السوري مهمّة قتله.
إلى أيّ حدّ يمكن البناء على إعادة ميشال سماحة إلى السجن، بعيدا عن الشعارات والمزايدات، ومن دون تجاهل أنّ ثمن توقيف الوزير السابق وكشف مخطّط سماحة ـ المملوك كلُّف، من بين أمور أخرى، اللواء وسام الحسن حياته. جريمة اغتيال وسام الحسن، الذي لعب دورا أساسيا في تعريف اللبنانيين بمن هو ميشال سماحة وما هي حقيقته، وقعت بعد شهرين من توقيف الوزير السابق استنادا إلى أدلّة بالصوت والصورة واعترافاته الشخصية.
يفسّر الربط القائم بين كشف مخطط سماحة ـ المملوك واغتيال وسام الحسن حرص الرئيس سعد الحريري والوزير نهاد المشنوق على التوّجه فورا إلى حيث ضريح وسام الحسن لقراءة الفاتحة على روحه. هذا بعض من وفاء للدَّيْن الذي لوسام الحسن على لبنان واللبنانيين جميعا. ليست إعادة ميشال سماحة إلى السجن سوى بداية تشير إلى أن الدولة اللبنانية لم تستسلم نهائيا بعد. لا بدّ من حلقة أخرى تندرج في السياق ذاته. تتمثّل هذه الحلقة في كشف بعض التفاصيل المعروفة التي في حوزة التحقيق في ظروف اغتيال وسام الحسن، والجهة التي نفّذت والتي يبدو أنّها معروفة أكثر من اللزوم.
لم يكن استهداف وسام الحسن جريمة عادية بأيّ شكل، ذلك أن رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي كان هدفا واضحا وقديما لكلّ من يسعى إلى القضاء على ما بقي من الدولة اللبنانية. لا تزال شعبة المعلومات، بفضل الدور الذي تؤديه في حماية الأمن الوطني، النقطة التي تركّز عليها الجهات التي تعمل من أجل الانتهاء من مؤسسات الدولة، بما في ذلك قدرتها على ملاحقة المجرمين من أجل تقديمهم للقضاء. لا تزال شعبة المعلومات مستهدفة لأنها رفضت الرضوخ للأمر الواقع واعتبار ميشال سماحة قدّيسا آخر من قدّيسي “حزب الله”. ليس من أجل وسام الحسن وحده أُعيد ميشال سماحة إلى السجن. أعيد إلى السجن من أجل أن يحيا لبنان ومن أجل أن يستعيد اللبنانيون بعض الأمل بأن البلد لا يزال يقاوم.
فوق ذلك كلّه، قد تساعد عودة ميشال سماحة إلى السجن في تحسين النظرة العربية، والخليجية تحديدا، إلى لبنان، إلى مؤسسة الجيش خصوصا. فصورة المؤسسة تخدّشت بعدما أطلق القضاء العسكري سراح الوزير السابق في كانون الثاني ـ يناير الماضي. وثمّة من يعتقد أن التساهل الذي أبداه القضاء العسكري مع ميشال سماحة، كان من بين أسباب تجميد الهبة السعودية للجيش في شباط ـ فبراير الماضي.
في كلّ الأحوال، لسنا سوى أمام بداية لبنانية جديدة، لكنّها خجولة، في وقت لا يبدو “حزب الله” مستعدا للذهاب بعيدا في المواجهة مع اللبنانيين الآخرين الذين اعترضوا بأكثريتهم الساحقة على إطلاق ميشال سماحة. يمكن أن يكون ذلك عائدا إلى أنّه يستعد منذ الآن لمرحلة الانسحاب من سوريا بعدما صار بشّار الأسد عبئا على أولئك المصرّين على بقائه في دمشق… كما قد يعود إلى أن الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري الإيراني” عناصره لبنانية، منصرف إلى مهمّات قومية.
تشمل هذه المهمّات، التي تحدّدها إيران، دولا مثل سوريا والعراق والكويت والبحرين وصولا إلى اليمن ودول أخرى. تتجاوز هذه المهمّات لبنان الذي، ربّما، لم يعد الحزب يريد الغرق في متاهاته من نوع متاهة ميشال سماحة. لذلك، نجده يكتفي في الوقت الحاضر بمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية!