من حسنات القمم الثلاث التي انعقدت في الرياض تسمية الأشياء بأسمائها بدل التعامي عن الواقع الإقليمي. هذه خطوة كبيرة إلى الأمام، بل تطور جذري على الصعيد الإقليمي. إذا أثبتت هذه القمم شيئا، فهي أثبتت أن المملكة العربية السعودية قادرة على لعب دور على الصعيدين العربي والخليجي من دون اللجوء إلى أساليب المواربة التي ميّزت الوضع العربي في الماضي، بما في ذلك الاختباء وراء الشعارات الكبيرة لتفادي قول الكلام الصريح الذي يجب أن يقال والذي لا بدّ من أن يقال.
بكلام أوضح، توصلت القمم الثلاث إلى أن الخطر الإيراني يساوي الخطر الذي تمثّله التنظيمات المتطرّفة والإرهابية التي من نوع “داعش”. بكلام أوضح، إن الميليشيات المذهبية الإيرانية والتنظيمات السنّية التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام وجهان لعملة واحدة. لا يمكن التصدي لطرف من دون التصدي للطرف الآخر. هناك حلف واسع وجبهة عريضة لا يتحرّكان إلا عندما يكون هناك تقدّم ما على صعيد إيجاد حلول لأي أزمة في الإقليم. يفرض هذا الواقع، بين ما يفرضه، التعامل مع النظام السوري والذين يقفون خلفه على طريقة التعامل مع “داعش” من دون لفّ ودوران. كلّ ما في الأمر أنّه كان هناك في الماضي من يريد تجاهل هذا الواقع وذلك منذ تسعينات القرن الماضي عندما كان لا يزال حافظ الأسد، وليس ابنه، على رأس النظام السوري. في العام 1996، على سبيل المثال فقط، نفّذت مجموعة من “القاعدة” بإشراف إيراني عملية الخبر في المملكة العربية السعودية. كان مزار السيدة زينب في دمشق منطلق هذه العملية والمكان الذي جرى فيه التخطيط لها من أجل قتل أميركيين وسعوديين.
في مرحلة التسعينات، بعد توقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، انشغلت جبهة الرفض العربية – الإيرانية – الإسرائيلية في كيفية إفشال هذا الاتفاق. ضمّت جبهة الرفض تلك إيران ومجموعات إسرائيلية وبعض العرب والفلسطينيين، على رأسهم حركة “حماس” التي استفاقت أخيرا أن عليها التخلي عن شعار “فلسطين وقف إسلامي”.
من بين أفضل ما صدر عن قمم الرياض التعاطي من فوق الطاولة مع الولايات المتحدة، بل مع إسرائيل أيضا. إذا كانت أميركا تريد قواعد في المنطقة، لا مشكلة في ذلك، ما دامت الحرب على الإرهاب بكل أشكاله تجمع بينها وبين العرب والمسلمين. وإذا كانت إسرائيل على استعداد للدخول في عملية سلام حقيقية، فلا مشكلة في التعاطي معها، خصوصا إذا أظهرت حسن نيّة بوقف الاستيطان في الضفّة الغربية المحتلّة. هل الهدف تدمير إسرائيل أم إبقاء بعض الأمل في إحياء خيار الدولتين الذي يعني قيام دولة فلسطينية “قابلة للحياة” تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل استنادا إلى قـرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي أقرت في بيروت عام 2002؟
كل ما يحدث يحدث من فوق الطاولة. لعلّ ذلك ما أثار الذين كانوا يعتقدون أن لديهم وحدهم القدرة على التعاطي مع الآخر، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل بطـريقة مباشرة… والتفـاخر بذلك.
بعد قمم الرياض، ليس كما قبلها. هناك رغبـة واضحة وإرادة في التعاطي مع الواقع من فوق الطاولة من منطلق أن الأولوية هي للخطر الذي يمثله المشروع التوسّعي الإيراني وأدواته المعروفة، بما في ذلك الإخوان المسلمون الذين كانوا في كل وقت في حلف غير معلن مع إيران ومع مشروعها بكلّ ما يمثّله. من يتذكر كيف استخدمت إيران عهد الإخوان المسلمين في مصر، عندما كان محمّد مرسي رئيسا للجمهورية، كي تخترق البلد العربي الأكبر؟
المشروع الإيراني واضح الهدف. مطلوب استخدام العرب وقودا في حروب لا تنتهي من أجل أن يتمكن الإيراني من التفاوض مع الأميركي والإسرائيلي على حسابهم. مع من تفاوض محمد جواد ظريف وغيره من المسؤولين الإيرانيين من أجل التوصّل إلى اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني صيف العام 2005؟ هل تفاوض وزير الخارجية الإيراني مع أشباح أم مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري؟
نعم، كانت قمم الرياض بمثابة تصالح مع الواقع. العلاقات بين الدول مبنية على المصالح المشتركة وليس على الشعارات. الأهمّ من ذلك كلّه أن هناك اتفاقا عاما على أفكار محدّدة. في مقدّمة هذه الأفكار أنّ التعاطي مع إيران ليس ممكنا في غياب تحولّها إلى دولة طبيعية من دول المنطقة بعيدا عن اللجوء إلى الميليشيات المذهبية التي تستخدمها من أجل تدمير ما بقي من سوريا والعراق، ووضع لبنان تحت وصايتها، وتهديد البحرين… واستخدام اليمن لتهديد أمن دول الخليج العربي في مقدّمها السعودية.
بعد نصف قرن على الهزيمة، من حقّ الدول العربية، في مقدّمها دول الخليج التصرّف بطريقة تحمي بها نفسها في وجه الخطر الذي أطلّ برأسه منذ العام 1979، عندما عرف الخميني كيف يستولي على الثورة الإيرانية ويحولها إلى نظام لا هدف له سوى تهديد جيران إيران المباشرين وغير المباشرين من منطلق مذهبي قبل أي شيء آخر.
يظل أخطر ما في المشروع الإيراني ذلك الحلف غير المعلن القائم بينه وبين الإخوان المسلمين وكل من ولد من رحمهم، بدءا بـ“القاعدة” وصولا إلى “داعش” مرورا بـ“حماس”.
استخدمت إيران “حماس” أفضل استخدام في مشروع يستهدف القضاء على عملية السلام التي انطلقت بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إذا كان اليمين الإسرائيلي قتل اسحق رابين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1995 من أجل الانتهاء من رجل كان يمكن أن يقدم على خطوة شجاعة في اتجاه مصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإن “حماس” أقدمت على ما هو أخطر من ذلك بكثير. ما أقدمت عليه “حماس” كان بتشجيع إيراني وبدعم مباشر من طهران. نفّذت “حماس”، منذ توقيع اتفاق أوسلو، سلسلة من العمليات الانتحارية جعلت المجتمع الإسرائيلي يتغيّر جذريا. ليس صدفة أنه منذ توقفت العملية السلمية، وهي توقفت عمليا في العام 2000 إثر فشل قمّة كامب ديفيد، لم تعد هناك حاجة إلى عمليات انتحارية؟ استخدمت إيران “حماس” أفضل استخدام. ها هي الحركة التي أدت الدور المطلوب منها إسرائيليا وإيرانيا للتخلص من ياسر عرفات، في مرحلة معيّنة، تسعى الآن إلى تغيير جلدها وكأنّ تغيير الجلد كفيل بإخفاء من هم الإخوان المسلمون على حقيقتهم وطبيعة العلاقة القائمة بينهم وبين إيران ومشروعها…
ليست قمم الرياض والكلام الذي قيل فيها والإعلان الذي صدر عنها سوى قمم الوعي العربي والإسلامي لما هو على المحك في هذه الأيام. ليس مهمّا من يسير في الخط الذي رسمته هذه القمم التي كرست نوعا من العلاقة الجديدة مع الإدارة الأميركية تقوم على الوضوح أولا، واللعب من فوق الطاولة ثانيا وأخيرا. المهمّ أن هناك تخلصا من عقدتين في الوقت ذاته. عقدة القواعد الأميركية والتعاطي مع الولايات المتحدة، وعقدة الخوف من المـزايدات الإيرانية في الموضوع الفلسطيني. صار كلّ شيء على الطاولة، ليس إلى جانبها وليس تحتها. إذا كانت إيران بالفعل “قوة إسلامية” لماذا لا تبدأ بالتخلي عن ميليشياتها التي لا تخدم سوى إسرائيل والتي تهدد كل ما هو عربي في المنطقة؟