كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة

المغرب اليوم -

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

باستلهامها رواية العهد القديم، إمّا مباشرةً أو مداورةً، طوّرت الإيديولوجيّات الحديثة من قوميّة واشتراكيّة وسواهما روايتها للتاريخ. وقد تشاركت الصيغتان القديمة والحديثة في تضمين الرواية فصولاً أربعة:

فأوّلاً، هناك العالم البَدئيّ الرائع الذي هو جنّة عدن، أو، وفق النسخ الحديثة، حياةٌ من الحرّيّة سبقت قدوم الاستعمار، أو عيشٌ في مساواة «المشاعيّة البدائيّة» قبل أن تنشأ الطبقات الاجتماعيّة، أو «حالة الطبيعة» المثلى في تأويل جان جاك روسّو لها...

وثانياً، هناك اللعنة التي تحلّ على البشر قاطبة، وهي نتاج مخالفة آدم لله بفعل إيحاء شيطانيّ، أو هي، وفق النسخ الحديثة، وفادة الاستعمار أو ظهور الاستغلال الطبقيّ...

وثالثاً، هناك لحظة تفجُّر الخلاص وانبلاج فجره، وهي تتمثّل في ظهور دين ودعوة بعينهما، يهتدي بهما الضالّون، أو، وفق النسخ الحديثة، ولادة نهضة قوميّة، أو نشأة طبقة عاملة، وغالباً ما تقترن تطوّرات كهذه بثورات ومعارك ملحميّة فاصلة.

ورابعاً وأخيراً، وفي نهاية طافحة بالسعادة، يحلّ الخلاص على البشريّة، فيطرد الإيمانُ والتقوى مَن آثر البقاء على ضلاله، أو، وفق النسخ الحديثة، تنتصر الوحدة القوميّة على أعداء الأمّة ومُجزّئيها، أو تعمّ الاشتراكيّة وتندحر الرأسماليّة...

وهكذا، لئن أوكل العهد القديم مهمّة قيادة التاريخ إلى الله، تولّت القوى الحديثة ردَّها إلى «الإرادة» أو إلى «العلم» اللذين يُفترض بالبشر فهمهما ومواكبتهما والدفع في اتّجاههما.

لكنّ القوى التي بشّرت برواية الفصول الأربعة هذه عملت كلّها على إضعاف قدرة البشر على الفهم والمواكبة والدفع. فهي، من دون استثناء، حاولت أن تفرض روايتها تلك روايةً واحدة للتاريخ يُذعن البشر لها. ولإنجاز الغرض هذا، وُظّفت مراكزُ عبادة ومؤسّسات تعليم، ثمّ جيوش وأجهزة أمن وسجون، ودائماً منظوماتٌ أخلاقيّة قُدّمت بوصفها وحدها الأخلاق القويمة. فمَن يخالف الرواية هذه خائن أو مشبوه أو مشعوذ، فيما هي، وبالتعريف، لا تقبل أيّ تعايش مع رواية أخرى، ولا تطيق أيّ تردّد، مهما كان طفيفاً، حيال الجزم بأنّ التاريخ كلّه يُنسج على منوالها ولا يُنسج إلاّ عليه. فحتّى المؤمن إذا اختلف إيمانه في تفصيل صغير عن الرواية الرسميّة وُصم هرطوقيّاً، والشيء نفسه يصحّ في الماركسيّ الذي لا يكون سوفياتيّ الهوى فيغدو تحريفيّاً، أو في اليهوديّ، المؤمن أو الملحد، الذي يخالف الصهيونيّة فيصير كارهاً للذات...

ومع التصاق الرواية بمؤسّسة وقائد وزعيم، تسلّلت الأحكام الزجريّة إلى اعتبارات شخصيّة، فباتت تجوز على مَن لا يستلطفه الزعيم، لسبب قد يكون شخصيّاً، تهمة تشويه تلك الرواية كجزء من مخطّط تآمريّ خطير. ورغم البراهين الكثيرة على أنّ اليقين الرفيع قد تختبىء فيه حسابات وضيعة، بل رغم أنّ التاريخ «يفاجئنا»، مرّة بعد أخرى، بأنّه أذكى وأشدّ مرونة وأكثر احتيالاً من أن يُصبّ في تلك القوالب، ظلّت رواية الفصول الأربعة جاثمة على النفوس والعقول بأسماء وعناوين مختلفة.

اليوم، في المشرق العربيّ خصوصاً، تجد الرواية إيّاها ضالّتها في الحرب الإسرائيليّة على غزّة. فالفصل الأوّل مفاده أنّ الصمود والبطولة واليقين كانت في ذروة تألّقها وفي أحسن أحوالها قبل أن يهبط علينا، عام 1993، اتّفاق أوسلو اللعين. أمّا الفصل الثاني فمؤدّاه أنّ الاتّفاق المذكور افتتح عصراً من الخيانة والانحطاط والحصار والتخلّي عن الشعب الفلسطينيّ وحقوقه. بعد ذاك جاءت عمليّة السابع من أكتوبر لتفتتح الفصل الثالث، حيث تلتقي البطولة والعبقريّة وقلب طاولة التاريخ على لئام التاريخ. وبالفعل ففي الفصل الرابع تنفتح الأبواب كلّها أمام مسيرة نورانيّة أوّلها إعادة القضيّة إلى الضوء ويكون تتويجُها في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وفي التعامل مع هذه الرواية لا يجوز إلاّ الانبهار بالقادة والزعماء وبأفعالهم التي دائماً ما أصابت كبد الحقيقة.

وبالطبع فإنّ الروايات الجانحة إلى الملحميّة لا تستوقفها التفاصيل الصغرى، بما فيها الألم الإنسانيّ، إذ «هكذا تتحرّر الشعوب»، كما يقال اليوم بثقة بالنفس يُحسد أصحابها عليها.

ولا نضيف جديداً إذا قلنا إنّ الأطراف التي تستولي على القضيّة، تستولي على الرواية، وروايةُ الطرف الأقوى هي الرواية الأقوى، فمَن لا يتقيّد بها يفقد حقّه في أن تكون له روايته، فضلاً عن فقدانه كلّ انتساب إلى القضيّة الأمّ المفترضة. هكذا تأتينا السرديّة المُلزِمة متخمةً بالتديين والأسطرة، حيث نسمع مرّةً بعد مرّة ما نعرفه وما نحفظه أصلاً، نُشنّف آذاننا بكلام مكرور يكون أكثره تفنّناً وإبداعاً أكثره إضجاراً.

وفيما تمضي إسرائيل في فتكها الإجراميّ، وتتزايد حاجتنا إلى الأفكار والتعدّد، يُرسَم التعبير المغاير الذي يخالف الطقوس والمحفوظات عملاً من أعمال الشيطان. فلئن استطاعت النسخة الأولى من الميثولوجيا أن تنجّي نوح وحده، فإنّ نوح، في أشكال الميثولوجيا الجديدة، يغرق هو أيضاً.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة كي لا نكون ضحايا الرواية ذات الفصول الأربعة



GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

GMT 17:27 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني

GMT 21:28 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«هي لأ مش هي»!

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 09:21 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات عصرية وجذابة للنجمات بصحية الدنيم
المغرب اليوم - إطلالات عصرية وجذابة للنجمات بصحية الدنيم

GMT 19:04 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر
المغرب اليوم - اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 06:49 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

المغربي سعد لمجرد يُثير الجدل برسالة جديدة لدنيا بطمة
المغرب اليوم - المغربي سعد لمجرد يُثير الجدل برسالة جديدة لدنيا بطمة

GMT 05:59 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

GMT 08:13 2019 الثلاثاء ,26 شباط / فبراير

أبرز الأبراج التي تعشق التحكّم في الآخرين

GMT 07:09 2016 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

سيارات لندن..!

GMT 00:40 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

سخان ماء يتسبب في وفاة سيدة متزوجة في تاوريرت

GMT 18:58 2023 الثلاثاء ,10 كانون الثاني / يناير

إقلاع طائرة تحمل أول صاروخ فضائي في بريطانيا

GMT 00:12 2020 الأربعاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مطالب أوروبية بتأجيل تقنية "صندوق الرمال" من "غوغل"

GMT 18:52 2020 السبت ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البابا يعزل أسقفًا "تستر" على اعتداء جنسي

GMT 19:19 2019 الثلاثاء ,19 شباط / فبراير

كيف ترفضين كذب طفلك دون أن يخسر ثقته بكِ؟
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib